مطر غزير على شرق المتوسط. جملة إخبارية لا شك أنك سمعتها مرارا خلال الأسبوع المنصرم. لكن لا تدع الأخبار تخدعك، فشرق المتوسط، تلك البقعة المليئة بالأنبياء والصراعات، منطقة جافة أو تكاد.

خذ البحر الميت مثالا.

آلاف السواح يزورون البحر الميت لعلاج أمراض الجلد بطينه الغني بالأملاح

​​زرت البحر الميت آخر مرة قبل حوالي عام. المشاهد معتادة: أوروبيون هاربون من زمهرير شتائهم إلى دفء البقعة الأكثر انخفاضا على يابسة الكرة الأرضية. سيدات في خريف أعمارهن متشحات بسواد الطين (المعنى المقصود هو المعنى الحرفي هنا) ولك أن تقدر ما جلبهن: أمراض الجلد، خاصة الصدفية، التي يتحدث مختصون عن قدرة أملاح البحر الميت على شفائها. سيدات متأنقات من أقطار الخليج العربي. رجل يحاول أن يقرأ كتابا، وجسمه طاف على مياه البحر لالتقاط صورة تخلد الموقف. وبعض الأردنيين.

​​أما البحر، فكان منكفئا، مختبئا في أسفل حفرة، كان بحرا مريضا.

لعلك تتساءل: أو يمرض بحر؟ وأي بحر! أيمرض بحر ميت؟

اصبر علي قليلا سأشرح لك الأمر بالنص والصورة. لكن اسمح لي أن أحدثك قبل ذلك قليلا عن زيارتي، حديثا في السياسة وعن البيئة، والعطش.

فلسطيني في الأردن

تلك هي زيارتي الأولى للشاطئ الشرقي من البحر، أما شاطئه الغربي فزرته مرات. قال من استضافوني إن مقامي سيكون في فندق على الشاطئ، واستزدت من الإنترنت بما شوقني، حتى اجتزت جسر الملك حسين الذي يربط الضفة الغربية لنهر الأردن بالضفة الشرقية.

على الجانب الأردني من الجسر، يتجمهر سائقون يعرضون خدمتك ويفاصلون في السعر. ركبت سيارة سائق قال إنه من الأغوار ويعرف المنطقة جيدا.
 

​​حديث سائقي سيارات الأجرة يكشف لك الكثير. إذا كان السائق أردنيا من أصول فلسطينية، سيكون حديثكما عن "البلاد" في صيغتها الأصلية، فالمكان جغرافيا.

ربما تتحدثان عن قضايا محلية فلسطينية، أو عن خلاف بين أعمام السائق حول قطعة أرض في قرية ما في الضفة، والطريقة المثلى لحسم الخلاف.. حديث عادي.

أما إذا كان السائق من أصول شرق أردنية، فالضفة الغربية ليست جغرافيا بل قضية، والمقارنة بين حال الضفتين حاضر دائما. واستدعاء الروابط بينكما يستدعي القفز عدة عقود إلى الوراء. ستروى حكايات عن إحضار حلوى العيد من القدس لا عمان لأنها "كانت" أقرب جغرافيا إلى الأغوار الأردنية، هذا قبل أن تعيد الحرب رسم الجغرافيا.

قبل أن تصل البحر الميت، سيذكرك كل شيء بأنك في قلب منطقة ساخنة، في الحقيقة الجغرافية والتشبيه السياسي.
​​

​​
الشاطئ كان هنا

سار بي السائق ساعات باحثا عن الفندق، قال لي إن فنادق ومنتجعات كثيرة أقيمت خلال السنوات القليلة الماضية في المنطقة حتى صار الأمر صعبا حتى على أبنائها أن يجدوا طريقهم إليها.

دارت السيارة عدة مرات قبل أن نسلك طريقا ترابية إلى الفندق المقصود. لا أثر للماء هناك.

يستدعي الأمر، في الحقيقة، أن تركب سيارة كهربائية إلى شاطئ البحر، فهو أبعد من أن تمشي إليه.

تسأل الموظفين فيخبروك أن الشاطئ كان، قبل سنوات، يضرب أسوار الفندق.. لكنه انسحب، وانزوى.

في الفندق، ستلاحظ اختلاف جودة الماء والجهد المبذول في توفيره، فهذه المملكة هي من أشد بلدان العالم فقرا في المصادر المائية.

تحاول أن تزور البحر، فيخبرك رجال الأمن أن الفترة المسموح بها الزيارة قد انقضت، حاول غدا صباحا.

رأيت سمكا هناك!

اكتسب البحر اسمه من حقيقة أن مياهه شديدة الملوحة (عشرة أضعاف نسبة الملوحة في مياه المحيط) .. إنه وسط طارد للحياة.

من أين جاءت إذن تلك السمكات الصغيرة الميتة الملقاة على شاطئ البحر؟

​​يقول لك حارس إن مزارع سمك إسرائيلية على ضفاف نهر الأردن تلقي فائض مياهها في البحر، ومعها يتسلل بعض السمك سيئ الحظ.

نهر الأردن هو "شريان الحياة" للبحر الميت، فمنه يتدفق الماء إلى هذا المسطح المائي المنبسط تحت شمس حارقة تسرع التبخر إلى مستويات قياسية. لكن السدود والتحويلات المائية الإسرائيلية، وأقل منها تأثيرا الأردنية والسورية واللبنانية حولت هذا النهر المقدس إلى أخدود بائس تجري فيه المياه العادمة.

والنتيجة أن أربعة من كل خمسة لترات من مياه النهر التي كانت تصل البحر الميت، لم تعد تصل. تخيل التالي: عدد الأردنيين والفلسطينيين والإسرائيليين تضاعف أربع مرات في الخمسين عاما الأخيرة من خمسة ملايين إلى 20 مليونا. هؤلاء البشر يحتاجون أضعافا مضاعفة من مياه الشرب، لكنهم أيضا يحتاجون فرص عمل، وشركات الصناعات الكيميائية توفر بعضها.

لم يمنع سكان المنطقة عن البحر شريان الماء الذي يصب فيه فقط، بل ساهموا في تجفيف حوضه الجنوبي لاستخراج البوتاس وغيره من الأملاح.

شاهد كيف تحول البحر منذ 1972:
​​​

​​
التغير المناخي يضرب ضربته

حاجات البشر وصراعاتهم ليست العامل الوحيد ولا الأبرز الذي ضرب البحر الميت في مقتل.

مسيرة قصيرة في برية القدس ستقنعك أن التغير المناخي حقيقة واقعة. ويتوقع خبراء أن يهطل مطر أقل بـ30 في المئة على المنطقة وأن ترتفع درجة حرارتها من ثلاث إلى خمس درجات مع نهاية القرن الحالي.

والآن، ينخفض مستوى البحر الميت مترا سنويا في المعدل.

إذا كنت أردنيا أو فلسطينيا، فستتذكر أن عمق البحر الميت هو 300 و... ربما تكون نسيت الرقم الدقيق الذي علمونا إياه في المدرسة، لكنه رقم خاطئ في كل الأحوال.

إذا ذهبت إلى صفحة البحر الميت على ويكيبيديا ستجد أن سطحه ينخفض 417 مترا عن سطح البحر. وهذا أيضا خطأ. هذا كان الرقم الصحيح قبل عشر سنوات.

في 2012، بلغ انخفاض البحر الميت 426 مترا تحت سطح البحر.

يقدر خبراء أن البحر الميت لن يجف تماما بعد أن ينخفض إلى مستوى معين مع نهاية القرن، بل سيتحول إلى مستنقع ضحل من المياه اللزجة، فهل يعني هذا أن أحفادك لن يتمتعوا بهذا المشهد؟