العنوان هنا
دراسات 25 أبريل ، 2011

العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (الحلقة 1 من 5)

الكلمات المفتاحية

محمد جمال باروت

مؤرخ سوري، وباحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تركز اهتمامه بقضايا التّاريخ الحديث، والتنّمية البشريّة والسياسيّة، والهجرة العابرة للحدود، والتّعليم والتّربية، ودراسات التجمّعات البشريّة، ودراسات استشراف المستقبل، والنّقد الأدبي، ونظريّات النقد الأدبي، والشّعر الحديث، والموسوعات وعلم الاجتماع. وقد شارك الأستاذ جمال في تأليف أكثر من ثلاثين كتابًا مؤلِّفًا، أو مؤلِّفًا أساسيًّا، أو مؤلِّفًا مشاركًا. ومن أحدث كتبه "حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية" (2017).

اندلعت في سورية منذ شباط / فبراير2011، اعتصامات وتجمعات، بعضها منظّم بطرائق عمل الشباب، كالاتصال المباشر ومواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية، وبعضها "تجمهري" عفوي. وقد جرت هذه الأحداث في المدن "المئة الفية" الصغيرة، وفي بعض مراكز المدن الكبيرة في المنطقتين الوسطى والساحلية، بينما بقيت المدن" المليونية" الكبرى بمنأى عنها تقريباً الأمر الذي جعل انتشارها الأكبر يقع في المدن الصغيرة والمتوسطة "الطرفية" و"المهمّشة". وقد حدثت فصولها الأعنف في المدن الـ "طرفية" ولاسيما في درعا ثم في دوما، والتي تعاني في مجملها، ولاسيما درعا وريف دمشق، التهميش المتعدد الأبعاد، وتعسّف السلطات المحلية وسلطاتها "الكبيرة" الاعتباطية غالباً، ومحدودية تساقط آثار عملية النموّ الاقتصادي عليها، وتدنّي مؤشّرات تنميتها البشرية، وانتشار البطالة والفقر، وارتفاع أعباء الإعالة العمرية والاقتصادية فيها، لكن ما يجمعها إلى حركات الشباب في مدينة دمشق هو أنّ قوامها البشري ينتمي إلى الشريحة العمرية الشابة بتعريفها النمطي (15-24 سنة) أو الموسع (15-35 سنة) التي تعتبر أكثر الفئات حساسيةً وقابليةً للمبادرة، والتي تنتشر في صفوفها أعلى معدلات البطالة، كما ينتمي قسم منها إلى شريحة شابة عصرية متفاعلة مع "رياح الثورات" في البلدان العربية الأخرى.

انطلقت الأحداث الأخيرة التي تشهدها سوريا من مدينة درعا التي يحتلّ فيها ارتفاع معدّل النموّ السكاني المرتبة الثانية على المستوى الوطني، وهو ما يفسّر ارتفاع الكثافة السكانية في مجالاتها المعمورة إلى نحو300 نسمة/كم2، وارتفاع الضّغوط العمرانية على مورد الأرض، حيث أنّ مساحة المجال المعمور فيها تشكّل نحو 79% من إجمالي مساحتها. وتبلغ الضغوط السكانية والعمرانية ذروتها في مدينة درعا باعتبارها المركز المتروبوليتاني لظهيرها، وتمتصّ جزءاً كبيراً من الهجرة الداخلية المتدفقة إليها من قرى ذلك الظهير، وهو ما يفسّر ارتفاع معدل نمو عشوائياتها، واحتلالها مساحةً لا تقل عن12% من إجمالي مساحتها العامة[1]. وارتفاع وتيرة الحراك الاجتماعي فيها، بما هو بحسب كارل دويتش، حالة اجتماعية تتسم بتزايد الحركية الجغرافية (الهجرة الداخلية)، والمهنية، وسرعة تواصل الأفكار وانتشارها وكثافة الاتصالات [2].

وتشبه مؤشرات التنمية البشرية فيها المؤشرات المتدنية و "المقلقة" في المناطق الشرقية (الرقة، دير الزور، الحسكة، ويضاف إليها ريف حلب الشرقي). وجراء ضمور المشاريع التنموية العامة والخاصة فإن درعا تندرج في عداد المحافظات الأكثر تصديراً للهجرة الطويلة والدائرية بسبب ضعف مردودية الإنتاج الزراعي للمساحات الصغيرة والمتناهية في الصغر والمتذرّرة نتيجة الإرث. وبسبب تراجع هذا الإنتاج بعد ردم الآبار الجوفية (المخالفة)، وارتفاع التكلفة بعد رفع أسعار المازوت وتحريرها، فإنّ معدّل البطالة مرتفع فيها، وليس هناك إمكان لتصريف قوة العمل المتنامية إلاّ بالهجرة الداخلية أو الخارجية. ويغذّي ذلك ارتفاع نسبة المتسربين من التعليم الأساسي إلى 4%، بينما معدله الوطني الوسطي هو 2،8%. وهؤلاء ينضمون إلى أفواج الباحثين عن عمل، وغالباً ما يعملون في القطاع غير المنظم. ويفاقم تلك المشكلات التسرب المبكّر للإناث من التعليم الأساسي وزواجهن المبكر، حيث يتزوج ما لا يقل عن 30% من الإناث ما قبل الثامنة عشرة، مقابل 11% على المستوى الوطني، وهو ما يرفع تلقائياً معدّل خصوبة المرأة الكلية والزواجية معاً. وتتضافر هذه الآثار برمتها مع قوة النسيج الاجتماعي التضامني الذي يشكّل على مستوى وظيفته حمايةً نسبيةً من الضعف والتهميش وفقدان الأمان الاجتماعي.

وعلى الرغم من أن مجتمع درعا متحضر تاريخياً، وفوق ذلك شديد "التمدين"، وأن عملية التمدين المتسارعة فكّكت الروابط العشائرية التقليدية "الحضرية"، فإن هذه الروابط ما زالت تحتفظ في "الملمّات" بقوتها على نحوٍ ما، وبقدراتها على التعبئة والاصطفاف. و توفّر هذه الروابط لبنيها لحمةً اجتماعية تضامنية. وبذلك تتجسم درعا كمجتمع متأخر في مؤشرات تنميته البشرية، ومحدودٍ في مصادر نموّه من جهةٍ، وبارتفاع معدل البطالة فيه، ولاسيما في شريحة الشباب، وكذلك بارتفاع معدل إعالة الفرد، في شروط ضيق أبواب الهجرة التي كانت تمثل متنفساً كلاسيكياً للأزمات. ووفق التقسيم النوعي للأقاليم السورية على مستوى مؤشرات التنمية البشرية، وتبعاً لذلك على مستوى الفقر، فإنّ درعا تقع في نطاق المناطق الشرقية والريفية الشمالية، وتشكّل جزءاً من قصة مرارة التنمية فيها وتعثّرها. ويترافق ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة فيها، وضعف شبكة الضّمان الاجتماعي، مع هشاشة العمل الجمعياتي الخيري والتنموي والدّفاعي* على المستويين الكميّ والنوعي، ففي محافظة درعا كلّها لا توجد إلاّ عشر جمعيات فقط لها بعض الفروع، بينما تفترض عملية التنمية وتدابير التحرير الاقتصادي تفعيل دور القطاع الجمعياتي في عملية التنمية، وتخفيف الآثار السلبية لعملية التحول إلى اقتصاد السوق، والتعويض نسبياً عن هشاشة شبكة الضّمان الاجتماعي.

وعلى غرار ما حدث ويحدث في البلدان العربية الأخرى التي تجتاحها رياح التغيير، فإن الشباب شكّلوا عماد هذه الأحداث والتجمعات. ولقد بدأت هذه الأحداث بشكل سلمي طارحةً مطالبَ ديموقراطية في حالة اعتصامات الشباب العصري، أو جامعةً مطالب تنموية وديموقراطية، وطنية ومحلية، وهو ما عبّر عنه رمزياً شعار "حريّة"، بينما كان بعض هذه المطالب ثقافياً محافظاً. ولكن التظاهرات كلها كانت تُجمِع على الحرية. ثم أخذت هذه الحركة تتسارع بوتائر "دراميةٍ" داميةٍ ومفجعةٍ كاشفةً عن حجم "الاحتقان" العام المتراكم و "المكبوت" والمتفجّر الآن، والمنفتح على احتمالاتٍ شتّى قد تنوس بين المخرج الوطني التوحيدي نحو التحول الديموقراطي، والإصلاح المؤسسي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الشامل، والتمزق الاثني الأقوامي والطائفي، وفي مستوى معيّن من تطور الأحداث ربما يتدخّل لاعبون خارجيون في مجرى التطورات بشكل مباشرٍ أو غير مباشر لتحقيق أهداف أخـرى لا صلة لها بتطلعات حركات الشباب إلى الديموقراطية والتنمية، وقد تتصل بتصفية حساباتٍ جيو- سياسيةٍ مع النظام السياسي السوري، ودوره الإقليمي، واحتمالاتٍ أخرى غير مرصودة الآن، بسبب اتّساع مساحة عدم" التيقن" منها. علاوة على حصة "المفاجآت" في مثل هذه الحالات.

 

لقراءة كامل الدراسة:

الحلقة الأولى إلى الحلقة الرابعة:

الحلقة 5/1

الحلقة 5/2

الحلقة 5/3

الحلقة 5/4

الحلقة الخامسة -والأخيرة- بأجزائها الخمسة:

الحلقة 5/5 الجزء 5/1

الحلقة 5/5 الجزء 5/2 

الحلقة 5/5 الجزء 5/3

الحلقة 5/5 الجزء 5/4

الحلقة 5/5 الجزء 5/5


[1] محمد جمال باروت (مؤلف رئيس)، مشروع "سورية 2025": اتجاهات التحول السكانية والمجالية المحتملة خلال العقدين القادمين، (دمشق: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة تخطيط الدولة، 2007)، ص 235- 238.

[2] عدنان أبو صالح، معجم علم الاجتماع، (عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع، ودار المشرق الثقافي، 2006)، ص 134 -135.

* يقصد بالجيل الدفاعي الأفراد الذين ينشطون في الدفاع عن الحقوق المدنية والبيئية والمرأة والمهمشين و غير ذلك.