أحكام العسكرية في قضية المطار في تونس: مقاضاة المدنيين وشبهة اعتداء على حقوق الدفاع


2022-05-18    |   

أحكام العسكرية في قضية المطار في تونس: مقاضاة المدنيين وشبهة اعتداء على حقوق الدفاع

مساء يوم 16-05-2022، أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة بتونس العاصمة بدائرتها الجناحية الابتدائية أحكاما تقضي بالسجن النافذ لمدد تراوحت بين ثلاثة وخمسة أشهر من السجن النافذ في حق المتهمين في القضية التي يصطلح إعلاميا على تسميتها بقضية المطار ومنهم أربعة من أعضاء مجلس نواب الشعب (من ائتلاف الكرامة) الذي أعلن الرئيس قيس سعيد حلّه[1]. ويعيد الحكم الصادر طرح السؤال حول استعمال القضاء العسكري في ملاحقة المدنيين من معارضي الرئيس سعيد. كما تثير إجراءات جلسة النطق به مخاوف بشأن احترام الحق في المحاكمة العادلة في المحاكمات التي توصف بالسياسية.

استعمال القضاء العسكري: البعد السياسي

بتاريخ 15-03-2021، منع أمن مطار تونس قرطاج مواطنة تونسية من مغادرة البلاد بدعوى أنها تخضع للإجراء الحدودي S17. وكردّ فعل على ذلك، توجّه أعضاء مجلس الشعب سيف الدين مخلوف ونضال السعودي وماهر زيد للمطار حيث دخلوا في خلاف مع الأمن.  نشرت حينها النقابات الأمنية على مواقع التواصل الاجتماعي أشرطة فيديو ذكر أنها توثق دخول النواب للمنطقة الحدودية المحجرة وتتضمن ادّعاء بأن المعنية بالإجراء كانت مصنفة كمشتبه بها من أجل الانخراط في نشاط إرهابي. 

في ذات التاريخ وبناء على إعلام وجه لها من محافظة الأمن، أذنت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس بإجراء بحث أولي في الموضوع شمل المعنية بتحجير السفر كما النواب الذين ساندوها. وكان ذلك المنطلق القضائي لما بات يعرف بملف المطار والذي شهد بعد انفراد رئيس الجمهورية قيس سعيد بالسلطة تطورا مهما عنوانه دخول العسكرية على الخط. وكانت أولى محطاته  تقديم النقابة العامة لقوات الأمن الداخلي  بتاريخ 30 -07-2021 شكاية في الموضوع للنيابة العسكرية. لم تلتفت هذه المحكمة لسبق تعهد القضاء بهذه القضية معتبرة أن الوقائع التي يمثلها فيها “تآمر على أمن الدولة الداخلي المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والإخلال بالراحة العامة قصد التعرض لتنفيذ القانون والاعتداء بالعنف أو التهديد على موظف حال مباشرته لوظيفته”، وهي جرائم تختص بنظرها خصوصا وأن المتضررين هم من الأمنيين الذين كانوا يباشرون عملهم. توالتْ بعد ذلك قرارات الإيقاف في حق من نسب لهم الاتهام قبل أن يبرز بعض لين في التعاطي كان من أبرز مظاهره قرار قاضي التحقيق العسكري بتاريخ 31-12-2021 حفظ تهمة جناية التآمر على أمن الدولة والتي كانت سابقا سند تبرير إسناد الاختصاص لقضائه وإفراج الدائرة الجناحية بتاريخ 17-01-2022 عن النائبين سيف الدين مخلوف ونضال المسعودي اللذيْن كانا بحالة إيقاف.

القضاء العدلي: تفريط لحقه تصحيح

تبعا لذلك، طرح السؤال حول الاختصاص الحكمي للمحكمة العسكرية بنظر القضية على محكمة التعقيب. إذ ذاك خالفت الدائرة التعقيبية بها موقف وكيل الدولة العام لديها الذي تمسك بأن النزاع من أنظار القضاء العدلي مبررة موقفها بأن من تضرروا من الوقائع من الأمنيين وهذا معيار كافٍ بذاته للقول بأن النزاع يخرج عن نظر القضاء العدلي عملا بأحكام الفصل 22 من القانون الأساسي لقوات الامن الداخلي.[2] موقف خالفه قاضي التحقيق بالمكتب 20 بالمحكمة الابتدائية بتونس الذي تمسك باختصاصه بنظر القضية وأصدر بتاريخ 21-02-2022 قراره فيها بتوجيه تهمة هضم جانب موظف عمومي بالقول على كل من سيف الدين مخلوف وماهر زيد ومهدي زقروبة والحفظ في حق من عداهم .كما لم ينضبط لهذا الموقف القاضي الجزائي بمحكمة ناحية تونس الذي أصدر بتاريخ 21-03-2022 حكمه القاضي بثبوت إدانة المتهمين فيما نسب لهم وسجن كل واحد منهم  مدة ثلاثة اشهر . وهنا ورغم أن الأحكام التي صدرت كانت بالإدانة فان المتهمين ونوابهم اختاروا بشكل مبدئي أن ينتصروا لقيمة القاضي الطبيعي. فتولوا ممارسة حقهم في الطعن بالاستئناف في الحكم الابتدائي  في ذات الحين الذي تسلحوا فيه به وبقرار قاضي التحقيق أمام المحكمة العسكرية حيث تمسكوا بضرورة انتظار صدور حكم باتّ في حقّ مخلوف وزيد وزقروبة وباتصال القضاء في حق غيرهم.

.

أمام الدائرة الجزائية العسكرية: سؤال الاختصاص مجددا

في جلسة يوم  16-05-2022، طلب محامو الدفاع من المحكمة العسكرية تأجيل نظرها في القضية  للإدلاء لها بالحكم الاستئنافي الذي سيصدر في النزاع عن القضاء العدلي. موقف عارضته النيابة العسكرية التي طلبت المحاكمة ورفضت المحكمة الاستجابة معلنة عزمها الشروع في استنطاق المتهمين فانسحب المتهمون ونوابهم من الجلسة لتحجز القضية للمفاوضة ويصدر تاليا فيها الحكم بالإدانة وفق نصه المضمن أعلاه. وبذلك، خرقت المحكمة حقوق الدفاع لكونها لم تستجب لطلب تأخير مبرر واقعا وقانونا علاوة على كونه كشف عن تمسك بالمحاكمة العسكرية للمدنيين في جرائم ووقائع لم يسبق أن اعتبرت مما تختص به المحاكم العسكرية زيادة على أنه انتهى لمعاودة محاكمة متهمين في وقائع سبق وصدر فيها أحكام باتة بما يطرح السؤال حول الحق في المحاكمة العادلة.

الحقّ في المحاكمة العادلة: الانتهاك في مقابل الصمت

يثير المسار الإجرائي العسكري لقضية المطار عديد علامات الاستفهام ويبدو من الواضح فيه أن للسياسي ولموقف الرئيس سعيّد من نواب ائتلاف الكرامة دور في صياغة تفاصيلها. وبدا فيه احترام الحق في المحاكمة العادلة موضوع انتهاك واضحا بداية من التوسع الذي اعتمد لفرض اختصاص المحكمة العسكرية وانتهاء برفض الاعتراف بحجية اتصال القضاء وبحق المتهمين في تقديم وسائل دفاعهم. في المقابل يلاحظ أن التفاعل الحقوقي معه بقي مُحتشما[3]. وربما كان من أسباب ذلك حضور الاعتبار السياسي في جانب من مواقف المجتمع المدني التونسي وهي من المسائل التي تستحق التنبه لها منعا للتفريط في الحقوق والحريات بدعوى الانتقام من الخصوم السياسيين وهو أمر يخدم في المحصلة الاستبداد ويمنع حماية المكتسبات.


[1] قضت بسجن النائب سيف الدين مخلوف مدة خمسة اشهر والنائب محمد العفاس مدة ثلاثة اشهر وبمثلها للنائب ماهر زيد والمحامي مهدي زقروبة مدة ستة أشهر وثلاثة اشهر لشخص يدعى لطفي الماجري وبعدم سماع الدعوى في حق النائب عبد اللطيف العلوي.
[2] طرح على محكمة التعقيب سؤالان كان عليها تقديم جواب لهما: أولهما هل أن اختصاص المحاكم العسكرية بنظر القضايا التي يكون الأمنيون طرفا فيها يتعلق بتلك التي يوجه فيها الاتهام عليهم أم أنه يتجاوز ذلك ليشمل حتى التي يكون فيها هؤلاء في موقع الضحية؟  ثانيهما هل أن صفة الأمني في قضية تكفي للتصريح بولاية المحكمة العسكرية في نظرها أم أن القضايا التي يكون فيها الأمني وتختص بالحكم فيها المحكمة العسكرية هي الواردة بالفصل القانوني أي التي يكون موضوعها على علاقة بالتعاطي مع التظاهرات العامة والتي يمس موضوعها بأمن الدولة؟ جوابا عن الإشكال القانوني المطروح ذهب مساعد وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب “منتصر صفته” في طلباته الكتابية الى كون حسن فهم ما ورد بطالع الفصل 22 من القانون الأساسي لقوات الأمن الداخلي يستدعي البحث عن إرادة المشرع والتي لا يمكن الوصول لها دون الرجوع للنص الأصلي للقانون والذي كان ينص في ذات الفصل على كونه “وفي هذه الصورة تضم المحكمة العسكرية وجوبا عونين تابعين لنفس الهيئة التي ينتمي إليها العون الذي يهمه الأمر ويقع تعيينهما بقرار من وزير الداخلية الذي يراعي في ذلك التعيين رتبة ووظيفة العون المظنون فيه”. وهو ما يؤكد أن إرادة المشرع اتجهت لاختصاص المحاكم العسكرية في القضايا التي يكون فيها الأمنيون موضع اتهام فقط (مظنون به) وفي الجرائم التي حدّدها المشرع دون سواها.استند هنا الادعاء العام لقراءة تاريخية لنصوص الإحالة ولمواقف سابقة من محكمة التعقيب والمحاكم العسكرية تؤكدها لينتهي لطلب التصريح باختصاص القضاء العدلي بنظر القضية وهو الموقف الذي خالفته الدائرة التعقيبية المختصة في القضايا العسكرية بمحكمة التعقيب في قرارها الصادر بتاريخ 07-12-2021 والذي اعتبرت صلبه أن الاختصاص ينعقد للمحاكم العسكرية كلما كان الأمني طرفا في التداعي الجزائي متضررا أو متهما
[3]  صدر بتاريخ 17-05-2022 بيان عن رئاسة مجلس النواب الذي كان الرئيس قيس سعيد حله بموجب مرسوم صدر عنه ورد فيه ” تُواصل سُلطة الانقلاب أسلوب المُحاكَمات الجماعية من أجل ضَرب الرأي المُختلف ومحاصرته، و تأتي مُحاكمة النواب فى المُقدمة. و تُعَد الأحكام الجائرة التي صدرت فى حق النواب: سيف الدين مخلوف و نضال سعودى ومحمد العفاس وماهر زيد من القضاء العسكرى دَليلا آخر ينضاف الى كُل الأدلة السابقة والتي جاءت لتكرس أساليب الديكتاتورية التي لَفظها الشعب مُنذ ثورته المجيدة ويهم رئاسة المجلس ان تُعبر عن
 الإدانة المُطلقة لمثل هذه المُحاكمات واعتبارها مُحاكمات لتصفية كل الرافضين للانقلاب واجراءاته الجائرة.
–            الرفض المبدئي لتوظيف القضاء العسكري والمدني ومؤسسات الدولة فى المعارك السياسية و مُحاصرة الرأي المُخالف.
الدعوة إلى أن تتحمل جميع الأطراف مسؤولياتها في الالتزام بدولة القانون والدفاع عن المؤسسات.”
انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، محاكم عسكرية ، محاكم جزائية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني