الدين والتدين في زمن الكورونا .. التساؤلات الغائبة

12 مايو 2020

كعادتها تحتل النقاشات المتعلقة بتنظيم الشأن الديني في مصر حيزًا واسعًا من النقاش العام في الأزمات والمستجدات المختلفة، فما أن بدأت الحكومة المصرية في فرض إجراءات الإغلاق الجزئي لمواجهة وباء كورونا حتى اشتعل الجدل حول قرارات إغلاق دور العبادة ومنع التجمعات الدينية مع اقتراب مناسبات دينية مهمة لدى كل من المسلمين والمسيحيين، حيث توفرت بيئة خصبة لتصفية الحسابات السياسية والمزايدات الإيمانية بين أطراف متعددة في مشهد ليس غريبًا عن الجدل العام في مصر.


وحقيقة الحال أن مثل هذه النقاشات ليست بدعة مصرية خالصة، فليست بلدان العالم بمنأى عن مثل هذه النقاشات والمزايدات، ولكن ثمة تساؤلات وأولويات أخرى على أجندة المهتمين بالشأن الديني على المستوى العالمي يُمكن الاستفادة منها لتطوير الجدل لدينا حول أدوار المجتمعات الدينية في أزمنة الكوارث والأوبئة، وهو تمامًا ما يستهدفه هذا المقال عبر استعراض جوانب من هذه النقاشات في نقاط محددة:

  • الدور الاجتماعي للمجموعات الدينية في أوقات الكوارث والأزمات:

ثمة من ينادي بأن تعطيل ممارسة الشعائر ومنع التجمعات الدينية لا يجب أن يرتبط ارتباطًا شرطيًا بتراجع الحضور الديني في المجال العام، وأن المؤسسات والروابط الدينية يُنتظر منها أدوارًا إيجابية لصالح مجتمعاتها في أزمنة الأوبئة والكوارث لحفظ السلم والنظام والتضامن الاجتماعي في مثل هذه الأزمات، وأن المؤسسات الدينية عليها تطوير أدوارها والاستعداد لمساعدة مجتمعاتها بفاعلية في حال تفشي الوباء أو غيره من الكوارث، مع التأكيد على أن مواجهة الوباء ستكون أصعب بدون المجموعات الدينية ودور العبادة.

فهل تستعد مؤسساتنا الدينية لمثل هذه الاحتمالات الكارثية؟ لا يبدو احتمال الإجابة بـ"نعم" ذو فرص كبيرة؛ فقد أعلنت وزارة الأوقاف أنها تستعد في الوقت الحالي لمرحلة ما بعد انتهاء أزمة كورونا وإعادة فتح المساجد عن طريق قيامها بتجهيز المساجد وصيانتها وفرشها بتكلفة تبلغ 100 مليون جنيه، فهل يُعد الإنفاق على إعادة فرش المساجد وصيانتها في أجواء وباء عالمي يُنذر بانهيار اقتصادي يُهدد حياة الناس ومعيشتهم ترتيبًا رشيدًا للأولويات؟ وهل الخطاب الإعلامي لوزارة الأوقاف يبلغ درجة من الرشد تُمكنه من تجميع الجهود وتخفيف وطأة الأزمة على المواطنين أم أنه مُنخرط في المزايدات والمعارك العبثية التي لا يبدو زمان الوباء وقتًا مناسبًا لخوضها كالجدل حول إذاعة قرآن الفجر والمغرب من مكبرات الصوت بالمساجد على سبيل المثال؟

ولعل تطوير النقاش حول الدور الاجتماعي لوزارة الأوقاف يفتح الباب أمام إعادة تعريف هذه الوزارة وتحديد وظيفتها الأصلية كوزارة مدنية مهمتها إدارة أوقاف خيرية تستهدف توفير دعم مالي للخدمات الاجتماعية والتعليمية والدينية، قبل أن تتحول إلى مؤسسة دينية تسعى لاحتكار الفتوى والخطاب الديني أو تتقاسم احتكارهما مع المؤسسات الدينية الأخرى؟ كما قد يفتح الباب للتساؤل حول حدود سلطة الوزارة على الآراء الدينية لأئمتها وموظفيها في ظل تكرار حالات فصل الأئمة من أعمالهم بسبب آرائهم الدينية المخالفة لخطاب الوزارة؟

  • مراعاة مخاوف المتدينين وبناء الثقة بين الحكومة والمجموعات الدينية:

أشار تقرير للجنة الأمريكية المعنية بالحريات الدينية بعنوان "الاستجابة للفيروس التاجي .. التأثير على الممارسة الدينية والحريات الدينية" إلى أهمية الحفاظ على الثقة المتبادلة بين المجموعات الدينية المختلفة والدولة، ومراعاة الحكومات لمخاوف المجموعات الدينية بشأن منع ممارسة الشعائر الدينية خاصة خلال المناسبات الدينية المهمة، أخذًا في الاعتبار أن مثل هذه المجموعات الدينية بإمكانها توفير المساعدات الإنسانية والاجتماعية في أزمنة الكوارث ولها سوابق في هذا المجال.

وتلفت هذه القضية الانتباه إلى الكيفية التي يجب أن تتعامل بها السلطات مع خروقات قرارات إغلاق دور العبادة والممارسة الجماعية للشعائر بداخلها خلال المناسبات الدينية: هل يتعين عليها إلقاء القبض على المتورطين في هذه الخروقات ومحاكمتهم وفحص سجلاتهم الأمنية بما يعني زيادة التكدس في السجون؟ أم عليها الاكتفاء بفض التجمعات والتأكد من إغلاق دور العبادة فحسب دون إجراءات سالبة للحرية أو غرامات؟

  • الانتباه لحقوق الأقليات الدينية ومراقبة المسؤولين ومحاسبتهم:

من التساؤلات المهمة المثارة على المستوى العالمي في هذا الشأن أيضَا: مدى تأثر الأقليات الدينية في بلدان العالم المختلفة بهذه الأزمة؛ خاصة بعد أن رُصدت مظاهر إضافية للتمييز والوصم الاجتماعي ضد مجتمعات الأقليات الدينية مثل الشيعة في باكستان والمسلمين في الهند وكمبوديا- باعتبار هذه الأقليات مصدر للوباء بسبب ظهور حالات الإصابة الأولي بفيروس كورونا بين المنتمين لهذه الأقليات.

وكذلك ثمة قلق دولي بشأن استغلال بعض الحكومات لهذه الأزمة من أجل إقرار مزيد من الانتهاكات بحق الأقليات الدينية؛ خاصة في الصين التي تحتجز منذ عام 2017 أكثر من مليون من الإيغور ومسلمين آخرين في ما يشبه معسكرات عمل جبري أو إعادة تأهيل قد يتسبب انتشار الفيروس فيها في كوارث إنسانية، فضلًا عن وجود تقارير تتحدث عن إجبار الحكومة الصينية لهؤلاء المعتقلين على العمل في المصانع لتعويض النقص في الخدمات الطبية الناتج عن أزمة كورونا. وكذلك تُوجه الانتقادات إلى السلطات المحلية في كوريا الجنوبية بسبب رفعها دعوى قضائية ضد إحدى الكنائس المسيحية بزعم تقويضها جهود حفظ الصحة العامة على الرغم من إعلان وزارة الصحة تعاون الكنيسة مع جهود الحكومة.

وطالبت اللجنة الأمريكية المعنية بالحريات الدينية حكومات العالم بإطلاق سراح السجناء المحبوسين بسبب آرائهم ومعتقداتهم الدينية تفاديًا للتكدس في السجون واحتمالات تعرضهم للعدوى بداخلها، ولعل أهمية هذه المطالبة تكمن بالأساس في تجاوزها للسؤال الشائع عن حدود سلطة الدولة في تقييد الحريات الدينية في زمن الوباء، فهل يضيق الأفق أمام النقاش العام لدرجة ألا يتخيل دورًا للدولة تجاه المجتمعات الدينية في هذه الأوقات غير تقييد الحريات فحسب ولا يتسع لأي شكل من أشكال إطلاقهاَ؟


كما يُمكن أن تستفيد الأقليات الدينية والحقوقيون المهتمون بالحريات الدينية في البلدان المختلفة من هذه المطالبة العامة بتطوير مطالبات خاصة لحكوماتهم للإفراج عن المحبوسين بسبب معتقداتهم وآرائهم الدينية كمطلب أكثر تحديدًا ضمن المطالبات العامة الشائعة بإطلاق سراح سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين لتقليص التكدس داخل السجون.


كذلك يطالب بعض المعنيين بالحريات الدينية المجموعات الدينية والمهتمين بحقوق الإنسان إلى البقاء يقظين ومحاسبة المسئولين ومراقبة الإجراءات الاستثنائية لتقليص الحريات الدينية تفاديًا لانتشار فيروس كورونا، للتأكد من إنهاء هذه الإجراءات ريثما تنتهي الأزمة.

وخلاصة القول أنه ثمة الكثير من التساؤلات والنقاشات التي يُمكنها أن تكون موضعًا للجدل العام بشأن تأثّر المجال الديني بأزمة كورونا وبشأن الأدوار المتعددة التي يُمكن للمجتمعات الدينية أن تُمارسها في خِضم هذه الأزمة، ويستدعي الولوج الجاد إلى هذه النقاشات الأكثر حيوية التعجيل بفتح حوارات جادة بين المجموعات الدينية المختلفة حول احتياجاتها وتصوراتها لأدوارها ومواقعها خلال هذه الأزمة.