حلول للسياسات البديلة | من وحي مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديدة: كيف تصنع السياسات المتعلقة بالنساء في مصر؟ (١)

من وحي مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديدة: كيف تصنع السياسات المتعلقة بالنساء في مصر؟ (١)

  • ٣٠ مارس، ٢٠٢١

ريم عوني أبوزيد

ريم عوني أبوزيد باحثة نسوية حاصلة على درجات الماجستير في كلاً من علم الاجتماع من كلية لندن و العلوم السياسية و القانون الدولي من الجامعة الأمريكية في القاهرة. تعمل أبوزيد في البحث الأكاديمي و السياسات في المجالات التالية: تقاطع العمل النسوي مع القانون، و المساواة الجندرية، و العدالة المجتمعية.

 

في شهر فبراير هذا العام، أحال مجلس الوزراء مسودة لتعديل قانون الأحوال الشخصية للبرلمان بعد موافقة كل من مؤسسة الأزهر الشريف والمجلس القومي للمرأة بجانب الهيئات القضائية. لم تطرح هذه المسودة للنقاش المجتمعي حتى تم نشر بعض موادها في وسائل الإعلام القريبة من الدولة.[i] شملت المسودة بعض من نقاط التحديث مثل تقديم ترتيب الأب في الحضانة على الأبناء من المستوى الثامن عشر إلى المستوى الرابع، و وضع إطار قانوني للخطبة والتأكيد على حق الإستضافة وغيرها، إلا أن المسودة في مجملها محبطة للأمال ولا تتلائم وطموحات الحركة النسوية التي سعت على مدار قرن كامل من الزمان لتحديث هذا القانون بما يضمن مقدار أكبر من الحقوق للنساء. هناك العديد من النقاط الإشكالية في القانون من أهمها المادة رقم (٦) التي تعطي الحق للولي من ذكور العائلة أن يُطلق من يولى عليها من زوجها في حالة الزواج غير المتكافئ. تُبقي المسودة الجديدة على فلسفة طالما عُمل بها في قانون الأحوال الشخصية، تلك التي تعتبر كل النساء بغض النظر عن سنهن وتعليمهن وخبرتهن في الحياة ناقصات الأهلية لإدارة شئونهن الخاصة وشئون أطفالهن (Elsadda، 2021).

قُبل القانون بموجة واسعة من الاعتراض سرعان ما تم تنظيمها في حملات سياسية عديدة منها مبادرة #الولاية-حقي التابعة لمؤسسة المرأة والذاكرة، وهي المبادرة التي تسعى لتغيير الصورة النمطية عن أهلية المرأة ودورها في المجتمع المصري. دعت المبادرة النساء لمشاركة شهاداتهن عن واقع معاناتهن مع قانون الأحوال الشخصية.[ii] خلال أيام قليلة، اشتبك المئات من النساء مع هذه الحملة بمشاركة تجاربهن العملية مع المجتمع والبيروقراطية المصرية من منظور افتقارهن إلى حق الولاية على أنفسهن وأطفالهن. فمنهن من لم تستطع تزويج نفسها بدون ولي، ومنهن من لم تتمكن من تولي المعاملات البنكية نيابة عن أولادها أو حتى إلحاقهم بالمؤسسات التعليمية فالولاية التعليمية حق أصيل للأب فقط. كلهن مُستهلكات من معارك ممتدة مع المجتمع وفي المحاكم، وكلهن محبطات من القانون الذي يراهن مواطنات تنقصهن الأهلية. تجاهلت المسودة محل النقاش جميع تلك الأوجه لمعاناة النساء في مقابل الإبقاء على امتيازات الرجال. الأهم من ذلك، كشفت هذه الحملة تجاهل صانع السياسات المصري لواقع معيشة النساء في القرن الواحد والعشرين وعدم اكتراثه لتناول قضاياها في القانون. 

يرجع جزء من الإحباط المجتمعي من مسودة القانون إلى توقيت خروجه في فترة تشهد بها مصر موجة واسعة من الحراك النسوي. عملت هذه الموجة من الحراك النسوي للحد من ظاهرة التحرش الجنسي في مصر، فهي موجة تسعى لتغيير نمط تفكير المجتمع في النساء وتواجدهن في المجال العام (Wahba, 2021). تفاعلت الدولة مع أحداث هذه الموجة من الحراك النسوي وتجاوبت مع بعض من مطالبه بشكل غير معتاد. وبالتالي، خروج مسودة القانون في هذا التوقيت يثير تساؤل حول موقف الدولة الحقيقي من قضايا النساء. والأهم من ذلك، يطرح سؤال حول كيفية صناعة السياسات والقوانين المؤثرة في حياة النساء مثل قانون الأحوال الشخصية؟ ومن هم الفاعلين الأساسيين في عملية صنع هذه السياسات؟ يجيب هذا المقال على هذين السؤالين من مدخل إنفراد النظام الحاكم بالتشريع دون الإلتفات لتراكم الحراك النسوي الممتد طوال عقود ماضية من أجل المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرآة في مؤسسة الزواج. يختص هذا المقال بالشق الداخلي من معادلة الإنفراد بصنع السياسات من خلال الشراكة مع ”نسويات الدولة“ في حين أركز على الشق الخارجي من تجاهل الضغط الدولي في جزء أخر من هذا المقال. 

قنوات التفاوض بين الحركة النسوية والدولة 

لطالما اُستخدمت القوانين لإخضاع النساء لهيمنة المجتمع وقيمه الذكورية، وهو الأمر الذي جعل الحركة النسوية المصرية تعني بتعديل القوانين التي تنتقص من حقوق النساء منذ نشأتها (Elsadda, 2019). ولأن الدولة هي من تصنع السياسات وتسن القوانين، كان على النسويات التفاوض مع مؤسساتها من أجل الحصول على مقدار أكبر من الحقوق للنساء وهو الأمر الذي جعل الحركة النسوية في حوار دائم مع الدولة. تاريخياً، استغلت النظم المصرية ما بعد الاستعمار قنوات التفاوض تلك بشكل استراتيجي لتحقيق بعض المكاسب السياسية منها احتواء ضغط التنظيمات النسوية المطالبة بالتغيير، ومنها أيضاً أظهار مصر بصورة الدولة الحداِثية التي تربط بين حقوق النساء واتفاقياتها الدولية.  

في خلال القرن الماضي، سعت الحركة النسوية لتفعيل تلك القنوات من أجل تعديل قانون الأحوال الشخصية مما أسفر عن العديد من التغييرات الجزئية في القانون مثل تقنين عقد الجواز من أجل تقييد الطلاق و تعدد الزوجات وإلحاقه بشروط خاصة منها اقتسام العصمة، و نهايةً بضمان حق الخُلع المعروف بقانون ”سوزان مبارك“ (Abdelhady, 2021). ظلت هذه التغيرات جزئية ولا تطول المنظومة المتكاملة للقانون وهذا يرجع لأن قنوات التفاوض دائماً ما كانت محددة برغبة الدولة وإرادتها للتغير وبالتالي تخضع لسيطرة الدولة التقديرية لما هو مسموح به من أطر حقوق النساء وما هو مرفوض. وبالتالي، فرضت الدولة على عمليات التفاوض أن تتم داخل إطار النصوص القانونية التي وضعها المشرع المصري عام ١٩٢٠  لفرض هيمنة المؤسسة الدينية على هذا المجال من القانون المصري. 

وعلى الرغم من أن معظم تلك التعديلات تم تقنينها سواء في تعديلات للقوانين أو في قوانين مكملة منفصلة، إلا إنها لم تقف على أرضٍ صلبة بسبب ارتباطها بالنظم الحاكمة مما جعلها وجهة لاعتراض قطاعات من المجتمع مثل ما حدث وقت سقوط نظام مبارك عام ٢٠١١ حين أصبحت هذه المكاسب محور سجال بسبب كونها إرث نظام انقلب عليه الشعب (Elsadda, 2011). وعلى الرغم من عدم تراجع الدولة عن أي من تلك المكاسب، إلا أن هذه الموجة من الإعتراض أظهرت خطورة ارتباط المكاسب النسوية بأجندة الدولة ومؤسساتها، وكان البديل واضح في هذه اللحظة، فمع انفتاح المجال العام سعت مجموعات نسوية مستقلة وغيرها مرتبطة بمنظمات المجتمع المدني للدفع ببعض من قضايا النساء في المجال العام (Boutros, 2017). غير أن هذه الجهود لم تمس قانون الأحوال الشخصية لعدم وضعه في سياق عمل تلك المجموعات، ولأن القوى السياسية المعارضة لم تجد مصلحة في تبنيه ضمن القليل من قضايا النساء التي تناولوها. أما الدولة، فلم تكن هناك إرادة سياسية لتغيير القانون تحت حكم المجلس العسكري، وحتى محاولات الإسلاميين لتغيير القانون من أجل الانتقاص من حقوق النساء خلال فترة حكم الإخوان المسلمين لم تأتي بثمارها. لم تستمر رحابة المجال العام كثيراً، فسرعان ما تم إغلاقه سواء من خلال تقنين منع التظاهر والذي أصاب أي عمل منظم بالركود و الهجوم على عمل الجمعيات الأهلية من خلال قضية المجتمع المدني و تلاها مسودات القانون المنظم للعمل الأهلي (Abdelhameed and Naber, 2016).

نسوية الدولة بين العمل النسوي وإرادة الدولة

دائما ما ارتبط عمل "نسويات الدولة" بآليات الدولة بشكل عضوي، فأصبحن أعضاء في لجان ومجالس تشرف على تعديل الأطر القانونية الحاكمة لحقوق المرأة في مصر. مثلهن مثل باقي الفاعلين السياسيين، تسعى تلك النسويات للموائمة بين الرغبة في مجال أوسع لحقوق النساء و الإطار الضيق الذي تتيحه آليات الدولة ورغبتها، وبالتالي فهن يعلمن بشكل واضح حدود وقواعد العمل من خلال هذه الشراكة (Allam, 2019). لطالما كان "المجلس القومي للمرأة" في مركز عمل "نسويات الدولة" منذ انشائه عام ٢٠٠٠، ولعب دوراً في تشبيك مطالب الحركة النسوية كلما كانت هناك فرصة سانحة من قبل النظام الحاكم مما أسفر عن العديد من المكاسب النسوية. عمل المجلس من خلال معادلة تسعى لتحقيق التوازن بين العديد من الأطراف منها الحركة النسوية ومطالبها الناجمة عن الاحتكاك المباشر للمنظمات والمبادرات النسوية بالنساء في المجتمع، والمجتمع الدولي وموجات الضغط به سواء من الأمم المتحدة أو من المنظمات الدولية التي تسعى لربط حقوق النساء في مصر والأجندة الأممية والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر، و الدولة والفرص المتاحة للتفاعل من قبل النظام والتي تعكس الإرادة المؤقتة للتجاوب والتفاوض مع الحركة النسوية على تعديلات وتغييرات في أوضاع النساء. استطاع النظام الحاكم، من خلال هذه المعادلة، فرض سيطرته على الأجندة النسوية من خلال قبول بعض من المطالب النسوية على حساب الأخرى. 

 في خلال الفترة ما بين ٢٠١١ و ٢٠١٢، سعت مجموعات نسوية للخروج عن سيطرة "نسويات الدولة" وطرح معادلة جديدة للعمل النسوي في مصر قائمة على التعددية. فمع تعدد المجموعات النسوية وتوجهاتها السياسية في المجال العام ظهرت سُبل جديدة للتفاوض من أجل التغيير منها الحشد الشعبي والتنظيم السياسي. ولكن لم تستمر هذه الفرصة طويلاً، فمع إغلاق مساحات التعبير في المجال العام لم تعد تلك المبادرات قادرة على التنظيم والتشبيك، وبالتالي تضاءلت فرصهم في التأثير على سياسات الدولة. 

 فمع غلق المجال العام وتهميش دور المنظمات والمبادرات النسوية، أصبحت الفرصة سانحة لعودة ”نسويات الدولة“ لصدارة المشهد وعلى رأسهم المجلس القومي للمرأة إلا أن هذه العودة كانت مرهونة بمعطيات جديدة. فلم يعد النظام يكترث بالتفاوض مع الحركة النسوية ولم يعد تأثير الضغط الدولي ومؤسساته واضح على السياسات. من خلال هذه الشراكة، سعى النظام الحالي أن ينفرد بصناعة السياسات المتعلقة بالنساء. 

 قد تفسر هذه الشراكة عدم قدرة المجلس القومي للمرأة على التفاعل مع الرفض المجتمعي لمسودة قانون الأحوال المدنية على الرغم من صلاحياته الرقابية المنصوص عليها في قانون رقم ٣٠ لسنة ٢٠١٨. ولكن في تقديري هناك سبباً أخر لعدم تفاعل المجلس وهو انعزاله عن واقع حياة النساء في مصر. فمع غلق المجال العام وتهميش دور المنظمات والمبادرات النسوية فقد المجلس اتصاله بالمجتمع و حُجب عنه وسيلة معرفة قضايا النساء به فأصبح لا يمثلهن. تلك المنظمات، على عكس المجلس القومي، على دراية بأوجه معاناة النساء من خلال خدمات الدعم التي تقدمها ومنها التقاضي في حالات الطلاق والخلع والنفقة ورعاية الأطفال وغيرها من القضايا الخلافية التي تعاني منها النساء بسبب  قانون الأحوال الشخصية، فهي المنظمات التي تعلم نقاط ضعف هذا القانون و تطرح سُبل لتجاوزها، وهو الأمر الذي فشل المجلس القومي للمرأة في استيعابه في ظل شراكته الحالية مع النظام الحاكم.

 في النهاية، أن حالة الإحباط والرفض التي تسبب بها القانون بين صفوف الحركة النسوية ما هي إلا انعكاس لأزمة انفراد النظام الحاكم بصناعة السياسات و فرضه رؤيته لحدود مقبولية حقوق النساء في المجتمع المصري وخاصة في مؤسسة الزواج، وهو الأمر الذي يعمل على تجاوزه العديد من المبادرات مثل #الولاية-حقي وغيرها مثل "حملة من أجل قانون مدني موحد" التي تسعى لخلق قنوات بديلة للتفاوض متجاوزة الإطار المفروض من خلال الشراكة بين المجلس القومي للمرأة والدولة. اعتمدت تلك المبادرات على آلية الحكي المستخدمة بكثافة في العمل النسوي مؤخراً. فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تسعى الحركة النسوية للاشتباك مع القانون في مجال عام ظل خانق لسنين عديدة. أما عن المجتمع الدولي وتأثيره على مثل هذا القانون فهو محور حديث الجزء الثاني من هذا المقال. 

-----------------------
[i] وافق مجلس الوزراء على مسودة القانون في العشرين من يناير هذا العام، مرفق محضر الاجتماع حيث تم ذلك: 

https://www.cabinet.gov.eg/Meeting/Details/4596?fbclid=IwAR36lLaidM02_GDAidViFx9aP0Jk7D9QvS5Yb57onhMhUGu19vSjSWwbnb8

[ii] مؤسسة المرأة والذاكرة هي مجموعة من الباحثات والباحثين المهمومي بتغيير الصور النمطية للنساء في الثقافة السائدة في مصر. http://www.wmf.org.eg

Image courtsey: Ahram Online


المراجع 

الآراء ووجهات النظر المقدمة من الكتاب خاصة بهم ولا تعكس آراء ومواقف الجامعة الأمريكية بالقاهرة أو مشروع حلول للسياسات البديلة