صناعة  غسل النسيج في الساحل :سياسة صناعية غير مستدامة

0
10260
محمد قعلول
المنسق الجهوي بالمنستير  لمشروع العدالة البيئية بالمنتدى

 

صناعة  غسل النسيج في الساحل :

سياسة صناعية غير مستدامة

يعتبر قطاع النسيج والملابس في تونس أحد القطاعات  الإستراتيجية في الاقتصاد الوطني وهو يساهم بـــ 22.7% من إجمالي الصادرات الصناعية و19.3% من إجمالي الناتج الداخلي الخام للصناعات المعملية في تونس وحسب إحصائيات وكالة النهوض بالصناعة لسنة 2016 يوجد 1757 شركة في قطاع النسيج وتوفر أكثر من 174 ألف موطن شغل وتعد شركات الغسيل والدباغة جزء من هذه الصناعة. تتطلب عملية غسل النسيج كميات كبيرة من المياه واستعمال العديد من المواد الكيميائية، وهو ما يجعل هذه الشركات مصنفة ضمن الشركات المفرطة في استعمال المياه، ذلك أن مراحل عملية الغسل تتطلب استعمال 12 حوض للمياه بما في ذلك تنظيف المعدات ويتم استعمال عديد المواد الكيميائية في عملية الغسيل كماء الجفال والماء الأكسوجيني وعديد المواد الأخرى .

صور لسكب مياه غسيل الدجين بالمنطقة الصناعية المنستير، جوان 2018.

قطاع الغسل والتكملة  : كارثة على الموارد المائية

وكما هو معلوم تستغل صناعة الغسيل والدباغة كميات كبيرة من المياه في العالم تقدر بحوالي 4 مليارات طن سنوياً أي أكثر من 126000 لتر من الماء في الثانية أي ما يعادل 4000 مليار لتر سنوياً بما يقدر بــ10.950.000 متر مكعب من الماء كل يوم وأغلب هذه المياه لا يقع إعادة استغلالها.

حيث نجد أن صناعة النسيج متسببة من %17  إلى %20 في تلوث المياه في العالم حسب البنك الدولي و متسببة أيضا في الاستنزاف الكبير للثروات الطبيعية حيث يستهلك 25 لتر من الماء للقميص و55 لتر للسروال إذ نجد كمية الماء المستعملة في اليوم تقدر بــ10.950.000.000 لتر.

هذه الصناعة تشكل عبئا كبيرا على الوسط البيئي في تونس التي تشكو ندرة في الموارد المائية إذ أن حصة الفرد الواحد من المياه هي دون 500 متر مكعب في السنة ومن المنتظر أن تتقلص هذه الحصة خلال العشرية القادمة إلى أقل من 350 متر مكعب في السنة مع تزايد عدد سكان .

وتبرز هذه الاشكاليات خاصة في ولاية المنستير الفقيرة للموارد المائية حيث نجد أن 51% من الموارد المائية التي يقع استغلالها تأتي من خارج الولاية خاصة من سد وادي نبهانة (بــ7 مليون متر مكعب) ومياه الشمال عن طريق قناة وادي مجردة. وتقدر كمية المياه الجوفية بولاية المنستير بــ 16.2 مليون متر مكعب، وهي تعتبر المنتج الأول للدجين بــحوالي 9 مليون سروال في السنة  ويقدر معدل استهلاك للماء بـ 55 لتر للسروال الواحد دون احتساب الشركات التي تقوم بصبغ ودباغة الأقمشة، و يقع استعمال المياه الجوفية دون رقابة والمياه الصالحة للشرب في عملية الغسيل وتقدر كميات المياه المستعملة  من الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه في بعض الشركات التي لا يتجاوز عددها الـــ 10 شركات ب 550.000 متر مكعب سنوياً وأمام كل هذا الاستغلال المفرط للمياه نجد نقصاً كبير في مياه الشرب في ولاية المنستير خاصةً في فصل الصيف بالانقطاع المتكرر للمياه ونقص مياه الريّ بالنسبة للفلاحين و تأثير هذه الصناعة على المائدة المائية الجوفية خاصةً بكثرة حفر الآبار دون رخص واستغلال أبار تعتبر في منطقة حمراء غير قابلة للاستغلال و نجد العديد من القوانين في ما يخص استغلال الآبار في مجلة المياه كالفصل 9 “إن التنقيبات والآبار التي لا يتجاوز عمقها خمسين مترا والتي هي غير موجودة داخل منطقة تحجير أو صيانة محددة بالفصلين 12 و15 من هاته المجلة يمكن القيام بها بدون رخصة سابقة على شرط أن تعلم بها الإدارة من طرف المالك أو المستغل.”  ولكن عندما قمنا بالتأكد من المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية أكدت أنها لا تعطي تراخيص للأنشطة الصناعية في حفر الآبار العميقة، الفصل 13: ” في كل منطقة تحجير:

أ) يمنع انجاز أية بئر أو تنقيبات أو القيام بأي عمل تحويل آبار أو تنقيبات معدة للزيادة في كمية الماء المستخرج منها.

ب) تخضع لرخصة سابقة من وزير الفلاحة: أشغال تعويض أو إعادة تهيئة الآبار أو التنقيبات إذا كانت غير معدة للزيادة في كمية الماء المستغلة بالآبار أو التنقيبات المذكورة.

ج) يخضع لرخصة وتعليمات وزير الفلاحة:

استغلال المياه الموجودة بباطن الأرض ويمكن أن تقتضي هاته التعليمات تحديد كمية الماء القصوى المراد استغلالها بالنسبة للآبار أو التنقيبات وأن تشتمل على عدم استعمال عدد من الآبار أو التنقيبات أو على كل تدبير أخر كفيل باجتناب التفاعلات المضرة وبتحقيق حفظ الموارد المائية الحالية”.

ولكن عندما قمنا بالبحث الميداني وجدنا أن هنالك شركات تستغل أبار في منطقة تحجير منها شركة تقوم باستغلال 13 بئر وشركة أخرى 5 أبار في محيط لا يتجاوز الــ10000 متر مربع . ونجد في الفصل 107 الذي يؤكد على ضرورة توفير الماء الصالح للشراب والمياه للفلاحة والصناعة وضرورة عدم تلويث هذه المياه وعدم التأثير على الموارد الطبيعية الفصل 107: ” تهدف أحكام هذا القسم إلى مقاومة تلوث المياه سعيا وراء إرضاء المتطلبات التالية أو التوفيق بينها:

– التزود بالماء الصالح للشراب.

– الصحة العمومية.

– الفلاحة والصناعة وجميع النشاطات البشرية الأخرى ذات المصلحة العامة.

– الحياة البيولوجية للوسط المتلقي وخاصة الأسماك وكذلك وسائل الترفيه المتصلة بالرياضيات البحرية وحماية المواقع الطبيعية.

وينطبق هذا القسم على الانصبابات والسيلان والإيداع المباشر أو غير المباشر للمواد على اختلاف أنواعها وبصورة اعم على كل ما من شانه أن يترتب عنه فساد المياه أو يزيد فيه وذلك بتغيير خاصياتها الطبيعية والكيميائية والبيولوجية أو الجرثومية سواء كان الأمر يتعلق بالمياه السطحية أو الموجودة بباطن الأرض أو بالمياه البحرية في حدود المياه الإقليمية.”

ويؤكد الفصل 108 و الفصل 115 على عدم إلقاء المياه المستعملة الصناعية في البحر والأودية إلى أن نجد أغلب هذه الشركات تقوم بإلقائه مباشرة دون معالجة إما في خليج المنستير أو سبخة المكنين أو وادي حمدون الفصل 108: “يحجر أن يقع صب أو تغطيس بمياه البحر كل المواد على اختلاف أنواعها وخاصة الفواضل المنزلية أو الصناعية التي من شانها أن تضر بالصحة العمومية وكذلك بالحيوانات والنباتات البحرية وان تعرقل سير تنمية الجهات الساحلية من الوجهتين الاقتصادية والسياحية.”

الفصل 115: “يحجر صب الفضلات المائية أو غير المائية التي من شانها أن تضر بالصحة العمومية وذلك بالأودية الناشفة من الماء”.

 وأمام كل هذا التلوث نجد أيضاً غياب دور المؤسسات المعنية بالبيئة مثل الوكالة الوطنية لحماية المحيط ووكالة حماية الشريط الساحلي والديوان الوطني للتطهير في المراقبة للمياه الصناعية الملوثة التي تأتي للمحطات دون معالجة أولية ونجد عدم مطابقة المياه المعالجة للمواصفة التونسيّة ما معدّله 60,6 % خلال الفترة 2009-2012 وهي نسب مرشحة للارتفاع نظرا لعدم شموليّة التحاليل التي يقوم بها الديوان لجميع العناصر المبيّنة في المواصفة حيت اقتصرت هده التحاليل على 9 عناصر من جملة 55 عنصر وعدم إمكانية استغلال هذه المياه في الفلاحة وأيضاً القيام بعملية سكب هذه المياه مباشرة في الأوساط الطبيعية دون معالجة ويعود ذلك لضعف الرقابة على الديوان الوطني للتطهير والشركات الملوثة من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط وهذا ما أكده ممثل الوكالة في المنستير وبلغت نسبة المؤسّسات الصّناعيّة التي تسكب مياه مستعملة غير مطابقة للمواصفات التونسيّة 74% إضافة إلى ذلك، سجّلت محدودية تطبيق الأحكام القانونيّة على المخالفين.

وقد أدّت هذه الوضعية إلى التدهور البيئيّ الذي عرفه المحيط المتلقي من وديان وبحار وخاصة  في ولاية المنستير على مستوى خليج المنستير ووادي حمدون وسبخة المكنين. وقد أدى هذا التلوث إلى ظهور حركات احتجاجية تحولت إلى حركات اجتماعية بيئية تناضل من أجل التصدي للتلوث الكبير الناجم عن محطات التطهير والمياه الصناعية وأيضاً تحركات احتجاجية لفلاحي الجهة للمطالبة بمياه الري وأدى هذا التلوث إلى تدهور كبير في القطاع الفلاحي وقطاع الصيد البحري ما دفع البحارة إلى الهجرة غير النظامية والفلاحين إلى العزوف عن العمل الفلاحي والتوجه نحو القطاع غير المهيكل.

ويرجع كل هذا إلى السياسات الفاشلة والمنوال التنموي الحالي القائم على مبدأ الربح واستغلال واستنزاف الموارد الطبيعية بشكل وحشي  ويقوم على نماذج إنتاجية واستهلاكية متناقضة مع شح المياه والتغيرات المناخية التي يشهدها العالم حالياً  وهو منوال يكرس الفوارق واللا عدالة في توزيع و نهب الثروات المائية بالساحل، الماء يستنزف في أنشطة الصناعة دون تثمين فعلي في المقابل فلاحو المناطق السقوية يحرمون من الماء والمياه الملوثة التي أثرت على النشاط الاقتصادي لصغار السماكين (الصيد الساحلي) وضحايا التلوث هم أساسا الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة الذين لا يملكون الإمكانيات المادية ولا السياسية للتصدي لهذا التلوث وهو ما جعل المنطقة في مواجهة أخطار مستقبلية جسيمة يمكن أن تجعل منها جهة غير قابلة لاستمرار الحياة وطاردة للسكان ومعرقلة للتنمية.