كيف للكارثة أن تٌستقرأ ؟ حوار مع سمانة معافي من منظمة العمارة الجنائية.

إدوين نصر

صورة من تقرير منظمة العمارة الجنائية عن إنفجار مرفأ بيروت - المصدر: منظمة العمارة الجنائية

مُحيت، بلمح البصر، أحياء من بيروت عن الخارطة في الرابع من آب، للعام ٢٠٢٠، إثر تفجير جزء من الـ ٢٧٥٠ طن من نيترات الأمونيوم المخزنة في عنبر من عنابر مرفأ بيروت. في برهة لم تتجاوز الدقيقتين، أُزهقت أرواح مئتي شخص، وأصيب ما يقارب السبعة آلاف شخص بجروح بليغة أو شبه قاتلة، وشُرّد ما يزيد عن ثلاثمئة ألف شخص.

يكثر السؤال عن شهادات من تلك اللحظة، أي كنتم؟ وماذا رأيتم وماذا سمعتم؟ وهل فقدتم عزيزًا؟ إلا أن كارثة الرابع من آب تبقى ضبابيةً لمعظم أولئك الذين شهدوا تكشّفها المميت، سواء من قرب أو عن بعد. يفرض سرد تداعيات واحدة من أقوى التفجيرات غير النووية في التاريخ مسؤوليةً تجاه عدد لا يحصى من الضحايا بالطبع، وفي تلك المهمة تناقض زاده عجزنا العام عن فهم نطاق هذا الحدث والخسارات التي أحدثها.

أصدرت منظمة العمارة الجنائية (Forensic Architecture) متعددة التخصصات والمرشحة لجائزة تيرنر [سيشار إليها في هذا المقال د باسم ع.ج] بالتعاون مع مدى مصر، إعادة تشكيل سمعي وبصري دقيق لحادثة المرفأ بعد ثلاثة أشهر ونصف من وقوعها، وإعادة بناء ثلاثي الأبعاد للعنبر المشــهور/ؤوم. خَلُص تحقيق المنظمة، بعد أن “جمعت وعاينت الصور والفيديوهات التي صورها شهود على الإنفجار وشاركوها على وسائل التواصل المتعددة”، إلى أن سلطات المرفأ لم تحترم اللوائح المقبولة دوليًا لتخزين نترات الأمونيوم، مما يُوجب مسائلة السلطات اللبنانية بجرم الإهمال. حمّلت المنظمة هذا البحث على الإنترنت، كنموذج قابل للتنزيل، وفيديو مفتوح مدته ١٢ دقيقة.

سمانة معافي باحثة عليا في منظمة العمارة الجنائية في جامعة غولدسميث، لندن. تقوم معافي بالإشراف المفاهيمي على العديد من المشاريع وتشرف على وجه الخصوص على مركز الطبيعة المعاصرة (CCN)، حيث تُطوّر تقنيات تحقيق جديدة في العنف البيئي. حصلت على درجة الدكتوراه من كلية الهندسة المعمارية التابعة للجمعية المعمارية (AA) بأطروحة حول التاريخ المعاصر للإسكان الجماعي في إيران والهويات الطبقية وأدوار الجنسين التي نشأت عنها.

إدوين نصر: يفرّد نقد جيمس سي سكوت للحداثة الاستبدادية، “المقروئية” باعتبارها عقيدة مركزية في فنون حكم الدول. يفهم سكوت الأنماط السائدة في تخطيط الدولة – سواء كانت عبر البنية التحتية الحضرية والريفية أو عبر تصميم العمليات البيروقراطية – عبر سعيها وعملها لجعل الأمور قابلة للقراءة، وفي إطار معاكس، نلاحظ بأن الأنماط المعاصرة في صناعة الحكم لا تهتم بـ “التبسيط”، بل تمعن  في تشويش وتجريد وإنهام العمليات التي تقرها الدولة وجعلها غامضة وغير مقروءة أو قابلة للتعقب. كيف تقوم ع.ج “بعكس إنهام” الأدلة المادية في العمليات القانونية والمنتديات السياسية العامة؟

سمانة معافي: صُدمنا جميعًا عندما رأينا المدينة التي نحبها تتدمر. أردنا، بطريقة ما، أن نظهر دعمنا للمدينة، وللعديد من أصدقائنا فيها. ارتأينا أن لا نتعاون مع أية وسيلة إعلامية غربية، نظرًا لتاريخ الغرب الاستعماري في التدخل السياسي في المنطقة، رغم تلقينا الكثير من العروض. كان صديقنا، معن أبو طالب يعمل بدوره ضمن مجموعة من الصحفيين المنخرطين عن كثب في لبنان، أعتقد أننا التقينا به في احتجاجات توتنهام، في ذكرى جريمة قتل الشرطة لمارك دوغان، والتي حققنا فيها أيضًا. فتح معن التواصل بيننا وبين مدى مصر، وبدأ الحديث عن شراكة محتملة، ثم جمعتُ فريقًا للتحقيق، كان من بينهم كيشان سان، ونيكولاس ماسترتون، وثلاثة باحثين لبنانيين اختاروا أن تكون أسمائهم  المستعارة، إسماعيل حيدر، وليشلا ي. وليلى سباعي. كان علينا  في البداية، ولضمان الدقة ، تمرير النموذج ثلاثي الأبعاد ذهابًا وإيابًا بين الباحثين المقيمين في لندن وبيروت في أول أسبوعين، ثم أخذ العمل يتطور ببطء بعد ذلك.

للدولة منطقها الخاص ونظرياتها المعرفية الخاصة، أوافقك الرأي بشأن سكوت، إلا أنني لست متأكدةً تمامًا، من مدى توافق نظريته في   لبنان الذي يسن ويؤدي نوعًا مختلفًا جدًا من فنون الحكم. أرسلت الدولة اللبنانية فريقها الجنائي إلى مسرح الحدث، وسرعان ما أخرجت لنا سردية تحيل أسباب الكارثة إلى ثلاثة عمّال تلحيم سوريين، ثم ما لبثت أن ترددت أصداء هذه السردية في وسائل إعلام دولية عديدة منها رويترز وواشنطن بوست ونيويورك تايمز. بالإضافة إلى ذلك، مُنحت فرق جنائية من دول كالولايات المتحدة وفرنسا حق التحقيق في القضية، إلا أن هذه الفرق فضلت التزام الصمت، وعدم مشاركة أي نتائج للتحقيق حتى مع عائلات الضحايا.[1] تحضرني هنا هانا أريندت، وفكرة الخداع الذي لطالما كان جزءًا من أدوات السياسة، والصدق الذي لم يكن يومًا من خصالها.[2]

في هذا السياق ، نظمنا تحقيقًا مضادًا بُني على مجموعة محددة من الموارد، وهي مقاطع الفيديو الخاصة بالمواطنين. كانت إحدى أولى توثيقات المرفأ في ذلك اليوم مثلًا، عبارة عن صورة نُشرت على تويتر. أمكننا فحص الصورة عن كثب، من تحديد موقع مصدر عمود الدخان، وإدراك أنه كان يتصاعد من الجانب الشمالي الشرقي من المستودع. احتوت الصورة بالتالي على معلومات موضوعية عن الكارثة، وقد ظهرت هذه المعلومات عبر إحداثيات “المصور نبيه” في المدينة، ومدى رؤية كاميرا هاتفه، والوقت الذي التقط فيه الصورة. فحصنا عشرات الصور ومقاطع الفيديو المشابهة، ووضعنها بدقة على خط الزمان والمكان، ثم جمّعنا بشق الأنفس كل تلك المعلومات المتموضعة للعثور على أجزاء من الحقيقة. اعتمد نموذجنا الثلاثي الأبعاد على شهادات السكان المرئية، وكان  نموذجا “متعدد المنظور” إذا صح التعبير.

إ.ن: بعد انتهاء حروب ١٩٧٥ -١٩٩٠ الأهلية، اندفعت البلاد إلى زمنية “ما بعد الحرب” المستطالة، تلك الزمنية التي لم تحاسب قادة الميليشيات الطائفية وممثليها من السياسيين، ولم توفر للضحايا أي إطار عدلي ترميمي. بعد ذلك، ومنذ عشرة سنوات تقريبًا، تم إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان من قبل المحكمة الجنائية الدولية للقيام بالتحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في ١٤ شباط ٢٠٠٥. حكمت المحكمة بإدانة مسؤول في حزب الله بتهمة التآمر في “ارتكاب عمل إرهابي”[3] والحكم عليه بخمسة أحكام متزامنة بالسجن المؤبد. لم يتخذ القضاء اللبناني أية إجراءات مباشرة لتحديد مكان المشتبه، أو لإنزال أية عقوبات على حزب الله . ما الذي يحدث عندما يكون السياق الذي تعمل فيه ع.ج رافضًا لأي اعتراف سياسي أو قانوني للأدلة التي ينتجها أو يكشف عنها في المقام الأول، أي عندما يكون السياق التي يكون فيه الخروج عن الشرعية فعلًا ممؤسسًا من قبل الدولة.

س.م: أنا دائمة التعلم من لبنان، ولطالما وجدت نفسي مُعجبة أو مُتأثرة بروائيين وشعراء ومعماريين وفنانين وموسيقيين ومجموعات كويرية ونسوية ومدافعين حقوقيين عرقيين وباحثين قانونيين من لبنان، وكثير منهم أصدقاء ل ع.ج.  بعد كارثة الرابع من آب، عرفنا بالطبع بأن العديد من مجموعات المجتمع المدني تواجدت على الأرض، تمامًا مثل تواجدها منذ بداية الثورة في تشرين ٢٠١٩. أحسسنا بأننا من الممكن أن نساهم في قضيتهم، عبر دراسة صغيرة نطورها باستخدام منهجيات ع.ج.  لطالما كان الكفاح من أجل العدالة جهدًا جماعيًا، ويبرز ذلك بشكل أكبر، عندما تفشل الدول في الإتيان حتى بأبسط مسؤولياتها.

يعد حريق برج غرينفيل، الذي عملت على التحقيق في ملابساته ضمن ع.ج، واحدًا من الأمثلة المفيدة هنا. في ١٤ حزيران ٢٠١٧، اندلع حريق عرضي في مطبخ شقة في الطابق الرابع من هذا المجمع السكني في غرب لندن، بالقرب من مكان سكني الشخصي. انتشر الحريق بعد ذلك في كل المبنى، وأودى بحياة ٧٢ شخصًا، ٨٥٪ منهم كانوا من الأقليات العرقية[4]. أمر رئيس الوزراء البريطاني بعد يوم واحد من الحريق بإجراء تحقيق شامل. شارك الناجون في الأسابيع التي تلت، قصصًا عن البعض منهم ممن كانوا مهاجرين بظروف قانونية غير مستقرة، وخوفهم من الترحيل، وفشل الدولة في تأمين محامين مجانيين ومترجمين لهم. وليس هذا بجديد، إذ يمتد البعد العرقي الطبقي العنيف للإهمال في العقارات السكنية في لانكسر ويست منذ أكثر من أربعين عام، فنتذكر منه في الثمانينات مثلاً، كارثة الإسبستوس، وطاعون الصراصير، وإغلاق الحدائق العامة وزيادة مراقبة الشرطة في التسعينات، وتجديد المبنى حديثًا، وغيرها من الأفعال المتصلّة في هذه السلسلة.

استغرق نشر النصف الأول من تقرير التحقيق عامين كاملين، وخلص إلى أن نظام التصفيح في المنازل، الذي فُرض حديثًا في التجديد الذي أنجز على المبنى، ليس مطابقًا لمواصفات السلامة، وأنه كان السبب الرئيسي لانتشار الحريق السريع. بدأت المرحلة الثانية من التحقيق في ٢٧ كانون الثاني ٢٠٢٠، وكشفت رسائل البريد الإلكتروني أن العديد من الشركات المشاركة في تجديد المبنى كانت تعلم بأن مواد التصفيح المستعملة قابلة بشدة للإشتعال. تأجلت جلسات المحكمة في شباط ٢٠٢٠ إذ سعى الشهود من تلك الشركات إلى حصانة قانونية، واليوم، أي بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف على الحريق، يستمر العمل من أجل المساءلة، ليس عبر المحكمة أو وسائل الإعلام فقط، بل في الشارع أيضًا.

إ.ن: أفاد العديد من سكان بيروت الذين كانوا في منازلهم وقت الانفجار بأنهم سمعوا صوت طائرات حربية إسرائيلية، قبل لحظات من الإنفجار الأول، وتم نشر وتداول مقطع فيديو لطائرة حربية تقصف المدينة على وسائل التواصل، قبل أن يتم تفنيده بعد يومين من قبل وكالة أنباء رويترز التي فحصت تفاصيله وأكدت بأن الفيديو يصور “حادثة سابقة”، وأنه لم يصور في يوم الإنفجار. قامت وسائل الإعلام المحلية كذلك، ومنها تلفزيون الجديد، بتزويد المشاهدين بصور مختلفة من كاميرات المراقبة المشرفة على المرفأ، وقد خلت كلها بوضوح من أي طيران حربي، وعلى الرغم من نشر هذه المعلومات على نطاق واسع، ظل العديد من المواطنين يرفضون التخلي عن نظرية أن يكون حادث المرفأ نتيجةً لقصف جوي. ماذا لو -وبدلاً من أن نرفض كل هذا باعتباره منطقًا تآمريًا- افترضنا أن يحمل هذا الطرح إمكانية معينة لزعزعة الآليات المهيمنة على إنتاج الحقيقة؟ بكلمات أخرى، لم يكن الصوت الذي سُمع قبل الانفجار صوت طائرات حربية إسرائيلية، إلا أن السكان سمعوه على هذا النحو نظرًا لتجربتهم الطويلة مع القصف الإسرائيلي، ودوّنوا بالتالي، هذا الحدث ضمن سلسلة متصلة من العنف الذي يبني حقيقتهم الخاصة. عندما نأخذ كل ذلك في عين الاعتبار، كيف يمكن أن تولد ع.ج معنى من الأدلة التي لا يمكن قبولها في أي محكمة قانونية؟ كيف تتعاملون مع أدبيات الشهادات عندما يحدث تضاد واضح بين الشهادات البشرية والأدلة العينية؟

لا نقوم بذلك، لأننا نأخذ الفيديو في بحثنا كدليل وكشهادة، فيصبح توثيقًا لما تشير إليه الكاميرا[5]  كما هو توثيق لما يراه الشخص الذي يصوّره. أفكر الآن في تحقيقاتنا السابقة، وأجد أن هذا هو الحال دائمًا، ففي فلسطين، اعتمدنا على صورة التقطها مزارع من غزة لورقة سبانخ تضررت بسبب مبيدات الأعشاب الإسرائيلية، وفي تشيلي، قام أحد المتظاهرين في ساحة بلازا دي لا دينيداد بتسجيل مقطع فيديو يظهر فيه إطلاق سحابة من الغاز المسيل للدموع على أحد المشاة المسنين، وفي حقول النفط في فاكا مويرتا في الأرجنتين، خاطر أحد العاملين بوظيفته ليصوّر سرًا مقطع فيديو لتسرب نفط مدمر.

أتذكر بأن اثنين من مقاطع الفيديو التي فحصناها في تحقيقنا المتعلق بيروت كانت قد أُخذت من مبنى اهراءات القمح، ويحتمل أن يكون عمال المرفأ قد صوروهما، نظرًا لقرب موقع تصويرهما من عنبر النيترات. في الفيديو الأول، يحرك المصور الكاميرا في مسح أفقي، محاولًا تغطية كامل طول العنبر، وإظهار مصدر النيران في المنطقة الشمال شرقية منه. عند تصوير الفيديو الثاني، كان الوضع قد تدهور، إذ نرى النيران المشتعلة وهي تتصاعد من نوافذ الجناح الغربي للعنبر، كانت يد المصوّر ترتعش، ثم بدأ يتراجع  للخلف، خارجًا من الظل إلى الشمس، ليظهر ظلّه لبرهة في الفيديو على الأرض أمامه، ويظهر خلفه ظل آخر، عرفنا من خلاله أن المصور كان بصحبة شخص آخر عند التصوير. استمر التصوير حتى أصيب المصور بانفجار الألعاب النارية الصاعد من العنبر، وسقط هاتفه على الأرض حاجبًا عدسة الكاميرا التي استمرت بالتصوير لمدة ١٠ ثوانٍ أخرى بعد وقوعها. نعلم الآن من تحقيقنا بأن انفجار نترات الأمونيوم وقع بعد حوالي ٢٥ ثانية من نهاية هذا الفيديو، وأن الجانب الشرقي للإهراءات تحول إثره إلى ركام، فماذا حدث خلال هذه الثواني؟ وهل تأذى مصور الفيديو من انفجار الألعاب النارية؟ وهل تمكن من إيجاد مكان آمن؟ وماذا عن الشخص الثاني الذي كان خلفه؟

قمنا في تحقيقنا، بجمع شهادات من شهود مختلفين ومتغايرين، فمنهم مواطنون صوروا أجزاءًا من الكارثة في ذلك اليوم، ومنهم المفتشون الذين كشفوا على العنبر قبل أشهر من الإنفجار، وخبراء المتفجرات الذين درسوا كيفيات تخزين نيترات الأمونيوم في بلدان أخرى، والعلماء الذين عاينوا الدمار في بيروت عبر الأقمار الصناعية. هيأت الفروقات الزمانية والمكانية بين هؤلاء الشهود لسلسلة من الترجمات والعلاقات، بين داخل العنبر وخارجه مثلًا، وشكل ولون أعمدة الدخان في يوم الكارثة، والمحتوى والتخطيط المكاني للبضائع المخزنة في العنبر قبل شهور من الإنفجار. ليس النموذج الثلاثي الأبعاد الذي أنشأناه سوى خطوة أولى بالطبع، خطوة يمكن للباحثين ولمجموعات المجتمع المدني استخدامها لتكملة التحقيق في القضية، ومع ظهور شهادات جديدة، ستتسع آفاق هذا النموذج واستخداماته.

إ.ن: بالعودة إلى سؤال محو الإنهام ودوافعه، كشفت ع.ج، عبر مجسم عنبر المرفأ الذي خُزنت فيه نترات الأمونيوم، عن تخطيط مكاني يوحي بقنبلة موقوتة تنتظر من يفجرها، وظروف تخزين تنتهك بشكل واضح معايير السلامة المقبولة دوليًا، مما يسلط الضوء على “المستويات المتعددة من إهمال الدولة الذي أدى إلى هذا الانفجار المأساوي”. من ناحية أخرى، حذرت الباحثة لاله خليلي من أن “جذور الكارثة تمتد لما هو أعمق وأوسع، إذ تحوي في طياتها على شبكة من رؤوس الأموال البحرية وأطر تزوير قانوني يهدف لحماية الأموال والأعمال بأي ثمن”.[6] وفّرت النتائج التي توصل إليها تحقيق ع.ج بعضًا من الوضوح حول ملابسات الجريمة ومسرحها، إلا أن سؤالي سيكون حول ما تحاول هذه الإيضاحات أن ترسمه، فهل يمكن -أو ينبغي- أن تشير الأدلة هذه، ودلالاتها إلى أفق سياسي ينطوي على أكثر من مجرد محاكمةٍ للمسؤولين بتهمة الإهمال؟ وخصوصًا في اللحظة التي يستمر فيها اللبنانيون في تمردهم الساعي لتفكيك أسس النظام الطائفي النيوليبرالي في لبنان من أصله؟

س.م: يمكن للعدالة بالطبع، أن تتجاوز القصاص والانتقام[7]، ويمكن أن توجّه نحو أصلاحات تكون جزءًا من “عمل الإصلاح المستمر” [8]، ولا يمكن لهذه الإصلاحات أن تُعطى أو أن تنفذ عبر أحكام أي جهة قضائية، سواء كانت محكمة محلية أو محكمة تعمل على نطاق دولي مثل المحكمة الجنائية الدولية. للمؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام والأماكن العامة وحتى الاحتجاجات دور تلعبه، وأعتقد بأن تحقيقنا المضاد حول العنبر، وعمل الدكتورة خليلي في البحر المتوسط ​​والبحر الأسود يفتحان معًا إمكانيات شتى للوعي والإحاطة بعاملين أساسيين، أولهما إهمال السلطات اللبنانية في واجبها في رعاية شعبها، وثانيهما الخداع والتزوير القانوني المصمم لحماية ورعاية الأعمال والمصالح على المستوى الدولي، وهما عاملين مُنشئين في سلسلة العنف المتعددة الأوجه التي نشهدها. إن تحديد هذه الحالات والتعبير عنها وإضفاء الطابع الاجتماعي عليها ضروري لتشكيل وعي مشترك متجذر في الأدلة والوثائق بدلًا من الأيديولوجيا. أعتقد بأن قوة إضفاء طابع اجتماعي على الأدلة تكمن في تمكيننا من طرح الأسئلة، مرارًا وتكرارًا ، معًا، وبكل الوسائل الممكنة.

ترجمة: حسين ناصر الدين


[1]“Report on behalf of the victims of the Beirut Explosion of 4 Aug 2020”، Legal Action World Wide  (١٣ ت٢ ٢٠٢٠)

[2] هانا أرندت، Crises of the Republic: Lying in politics, Civil disobedience, On violence, Thoughts on politics and revolution (نيو يورك: Harcourt Brace Jovanovich ١٩٧٢)، ٤ و ٤٥.

[3]“محكمة رفيق الحريري: حكم الإدانة في اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق”، BBC News (١٨ آب ٢٠٢٠)

[4]https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/aug/01/the-twinned-injustices-of-race-and-class-lie-at-the-heart-of-the-grenfell-tragedy

[5]كان التحقيق الصغير الذي قمنا به في لبنان بصريًا، لكننا أظهرنا أهمية الشهادات السمعية في بعض من تحقيقاتنا الأخرى، مثل التحقيق المتعلق بسجن صيدنيا. 

[6]لاله خليلي  “Behind the Beirut explosion lies the lawless world of international shipping”, صحيفة الغارديان (٨ آب ٢٠٢٠

[7]أنجيلا ديفيس  Are Prisons Obsolete? (نيويورك: مطبعة Seven Stories ٢٠٠٣) ص. ١٠٧-٨

[8] إريلا عائشة أزولاي Potential History: Unlearning Imperialism (لندن: versp, ٢٠٢٠) ص. ٥٦٥-٥٦٧