تقدير الأزمة المالية في الكويت: بين المشاكل البنيويّة والإيرادات الضريبية المُعطلة

انطلاقاً من معطيات غير واقعيّة يحدد الكويتيون سعراً منخفضاً للنفط في ميزانيّتهم. يقود هذا الوضع المتعارف عليه منذ عدّة سنوات إلى تضخيم العجز المالي، لكن الميزانية تبقى في حالة عجز حتى وإن كان التّقدير واقعيّا.

طيلة الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021، بلغ سعر مزيج برنت أكثر من ستين دولاراً للبرميل، ووصل في بداية مايو/أيار إلى 67.3 دولارا، في حين كان السّعر في هذا الشّهر من العام المنصرم 26.4 دولارا. كما قدّرت الميزانية الحاليّة البرميل بسعر 45 دولارا، وبحسب حجم الإنتاج بلغت الإيرادات النّفطية 9127 مليون دينار.

وعند مقارنة سعر برنت الحالي بالسّعر المقدّر في الميزانيّة، نلاحظ فرقاً شاسعاً يتجاوز العشرين دولارا، وبحسب وزارة الماليّة تمّ الاعتماد على هذا السّعر المنخفض لأسباب اقتصاديّة عالميّة وكويتيّة ولأسباب سياسيّة تتّصل بالتّوتر الإقليمي. بتقديرها، تتّسم الأسعار في السّوق العالميّة بعدم الثّبات، وترى الوزارة بأنّ الكويت بلد ريعيّ يعتمد اعتماداً شبه كلّيّ على النّفط، فهو يفتقر للإيرادات المتأتّية من السّياحة والزّراعة والصّناعة والعمالة الخارجية، وبالتاّلي فأن أي هبوط في أسعار النّفط يؤثّر بشدّة ومباشرة على ماليّة الدّولة. وتعتقد الوزارة بأن أسعار النّفط قد ترتفع دون أن يترتّب على ذلك فائدة للكويت بسبب الصّراع في المنطقة، وهي تلمّح إلى التّهديدات الإيرانية بغلق مضيق هرمز الذي يفضي إلى توقّف كلّيّ للصّادرات النّفطيّة الكويتيّة.

من النّاحية الاقتصاديّة تتمتّع الأسعار النّفطية الحاليّة بثبات نسبيّ نظراً لمؤشرّات السّوق، فقد اتخذت أوبك+ قراراً بمواصلة تخفيض الإنتاج، وطبّقت دول المنظّمة هذا القرار لاسيما السّعودية وروسيا. أيضا هبط إنتاج النّفط الصّخري الأمريكي، ولم تتحسّن كثيراً الصّادرات الإيرانية رغم تغيير الإدارة الأمريكيّة، وعلى هذا الأساس يتّسم العرض بالهبوط.

وبالعكس يتّجه الطّلب نحو التّصاعد التّدريجي لأسباب ترتبط بالعودة القريبة للاقتصاد العالمي إلى حالته الطّبيعية جرّاء لقاح كورونا. فالصين، أكبر دولة مستوردة للنّفط في العالم، لم تسجّل هبوطاً في الطّلب طيلة الأشهر المنصرمة، بل على العكس تماما. أيضا إرتفع الطّلب في اليابان والهند وأوروبا. أما الولايات المتحدة، أكبر بلد مستهلك للنّفط في العالم، فقد ارتفع طلبها لسببين أساسيين: أولهما هبوط مخزونها بسبب السّحب المتزايد وما يترتّب على ذلك من ضرورة تعويض النّقص. وثانيهما خطّة التّصدي لتداعيات كورونا والتّي قدّرت اعتماداتها بنحو ترليوني دولار.

يفضي هبوط الإنتاج من جهة وتزايد الطّلب من جهة أخرى إلى ارتفاع أكيد ومستمر لأسعار الخام، وهذا الاتجاه لا يرتبط بعوامل طارئة.

أما ريعيّة الاقتصاد الكويتي فلا تبرّر التّقدير المنخفض لسعر النّفط في الميزانيّة العامّة، فالكويت كانت ولا تزال دولة ريعيّة.

بما يخصّ غلق مضيق هرمز فقد يقود هذا الأمر إلى إحداث أزمة بالغة الخطورة في الكويت ودول الخليج الأخرى. ولكنّ هذه التّهديدات اقتصرت على التّصريحات ولم تجد تطبيقاً لها حتى عندما وصلت العلاقات الأمريكية الإيرانية تحت ظل الإدارة الأمريكية السّابقة إلى أسوء حالتها، وبالتالي فمن باب أولى أن لا تؤخذ هذه التّصريحات حالياً على محمل الجدّ. لكن علينا الانتباه الى أنّ تأثير هذه التّهديدات يأتي سلبياً على ماليّة الكويت ودول الخليج الأخرى بسبب تزايد النّفقات العسكرية، بحيث أنّ كلّ زيادة في هذه النّفقات تقلّص الاستثمارات المنتجة، كما تتضرر مالية هذه البلدان لأنها تدفع المزيد من الأموال للحصول على الحماية الأمريكيّة.

في بداية مايو/أيار 2019 (قبل جائحة كورونا) كان سعر برنت يعادل تقريبا سعره في نفس الشّهر من العام الجاري 2021. كما لم تتغير أحاديّة الاقتصاد الكويتي خلال هذه الفترة، أما العلاقات الإيرانية الامريكية فقد كانت أكثر توتراً في عام 2019 مقارنة بعام 2021، لذلك يفترض أن يكون سعر البرميل في ميزانية عام 2021 أعلى من سعره في ميزانية عام 2019، ولكن ما حدث كان العكس تماما، فقد كان السّعر 55 دولاراً ثم هبط إلى 45 دولارا.

وعلى هذا الأساس، فتقدير السّعر بـ 45 دولاراً خطأ متعمّد، يترتّب عليه تضخيم العجز المالي.

اذا افترضنا أنّ سعر البرميل في الميزانية 60 دولاراً بدلاً من 45 دولارا، وهذا الافتراض أقرب إلى الواقع، في هذه الحالة تصبح حسابات الميزانية مختلفة، سترتفع الإيرادات النّفطية إلى 12169 مليون دينار بدلاً من 9127 مليون دينار، وعندئذ ينتقل العجز المالي من 12119 مليون دينار إلى 9077 مليون دينار.

يتبين إذن بأن سوء التّقدير يزيد عجز الميزانيّة العامّة بمبلغ ثلاثة مليارات دينار أي عشرة مليارات دولار. كما يتّضح أيضاً بأنّ الميزانيّة العامّة في حالة عجز هائل حتى وإن كان السّعر المقدر 60 دولارا، وهو ما يشير إلى خطورة المشاكل الماليّة وارتباطها بعوامل أخرى لا علاقة لها بأسعار النّفط بل بالإيرادات غير النّفطية وبالإنفاق العام.

أن للتقدير الخاطئ والمتعمّد لسعر النفط خصوصيّات تتّصل بالعلاقة المتوترة بين الحكومة والبرلمان، فقد وضعت الحكومة أربعة أدوات لتغطية العجز المالي تحوّلت إلى أهداف بسبب أهميتها.

الأداة الأولى هي  إلغاء تحويل 10% من الإيرادات العامة إلى صندوق الأجيال القادمة، والأداة الثّانية هي سحب خمسة مليارات دينار سنوياً من هذا الصّندوق، أما الأداة الثّالثة فتمرير قانون الدّين العام، وتكون الأداة الرابعة بإعادة النّظر في النّظام الضّريبي.

ولتحقيق هذه الأهداف لابدّ من أن تكون الميزانيّة في حالة عجز مفرط، وحتّى تصل إلى هذه الحالة يتعيّن أن ترتفع النّفقات وتنخفض الإيرادات.

ارتفاع النفقات يحدث سنويّا، حتى فايروس كورونا لم يقدر على تقليصها إلا بمعدل ضئيل، وأما هبوط الإيرادات فيتحقق بسهولة عن طريق التّقدير المتدني لسعر الخام وهكذا تم اختيار سعر 45 دولاراً للبرميل.

من دون شك، يعلم البرلمانيون بأن هذا السّعر لا ينسجم مع الواقع، لكنهم لا يستطيعون التّشبث بعدم واقعيته، لأنّ الميزانية ستبقى في حالة عجز كما ذكرنا، فهي لا تتوازن إلا إذا كان سعر البرميل يفوق التّسعين دولارا.

وهكذا فأن التّبريرات الاقتصاديّة والسّياسية التي تقدّمها الحكومة تسعى إلى تحقيق تلك الأهداف الأربعة. فعلى الصّعيد العملي استطاعت الحكومة تعطيل التّحويل إلى صندوق الأجيال القادمة لكنها لم تستطع لحدّ الآن تحقيق الأهداف الثّلاثة الأخرى ومن بينها قانون الدّين العام.

رفض مشروع قانون الدين العام

قدّمت الحكومة مشروع قانون إلى مجلس النّواب للسّماح لها باقتراض عشرين مليار دينار لمدة ثلاثين سنة، فرفض البرلمانيون هذا المشروع. لذا عادت الحكومة وأجرت تعديلاً بحذف الفترة الزّمنية والاستعاضة عنها بمعيار الحدّ الأقصى للمديونيّة العامة وهو 60% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن البرلمان رأى بأنّ هذا التعديل لا يكفي، فلابد بتقديره من خطّة إصلاحيّة واضحة لتنويع مصادر الإيراد العام، كما أشار إلى ضرورة معالجة الفساد المالي والقضاء على مختلف صور هدر المال العام، فالاقتراض برأيه تسكين للأزمة، بينما المطلوب إصلاح شامل وإعادة النّظر في السّياسة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهكذا رفضت اللّجنة المالية البرلمانية مشروع هذا القانون.

هنالك اعتبارات عديدة تجعل البرلمان يتراجع عن موقفه؛

الاعتبار الأول: ضخامة الأزمة المالية، ففي جميع البلدان عندما لا تكفي الإيرادات لتغطية النّفقات يصار إلى القروض الدّاخلية والخارجيّة خاصّة عندما يهبط الاحتياطي الرّسمي للدولة، وهذا هو حال الكويت.

الاعتبار الثاني: أن الاستمرار برفض مشروع قانون الدّين العام إضافة إلى معارضة الضّرائب الجديدة كالضريبة على القيمة المضافة ورفض تقليص الإنفاق العام كالمرتبات والدعم، يعني سدّ جميع الطّرق أمام الحكومة ما قد يفضي إلى حلّ البرلمان، بالتّالي فالموافقة البرلمانيّة على مشروع قانون الدّين العام يقود إذن إلى تهدئة العلاقات بين السّلطتين التّنفيذية والتّشريعية.

الاعتبار الثالث: إنّ إصرار البرلمان على معارضة مشروع قانون الدين العام يشجّع الحكومة على السّحب من جديد من صندوق الأجيال القادمة عن طريق المبادلة، ولغلق الأبواب أمام هذا السّحب يتعيّن قبول هذا المشروع.

الاعتبار الرابع: هو موافقة ديوان المحاسبة. ففي 18 يونيو 2020 طلبت لجنة الشؤون المالية والاقتصاديّة التّابعة لمجلس الأمة التعرف على رأي ديوان المحاسبة بشأن مشروع قانون الدّين العام، وأجاب حينها الديوان بأن “الظروف الحسّاسة” التي تمرّ بها ماليّة الدّولة وانخفاض أسعار النّفط وتزايد العجز المالي تستوجب توفير موارد جديدة منها الاقتراض. ويجدر الاشارة إلى أنّ الدّيوان اشترط وجود ضوابط للاقتراض دون أن يسمّيها. وترى هذه الورقة أنّ على الحكومة إجراء تعديل على مشروع قانون الدّين العام بهدف تحقيق مكاسب ماليّة واستثماريّة من جهة وتشجّع البرلمان على الموافقة من جهة أخرى.

وترتبط أهم الضّوابط التي حدّدها الدّيوان، بكيفية استخدام الأموال المقترضة، فلمّا توجّه القروض لدفع الرّواتب، يزداد ثقل العبء المالي عندما يتعيّن خدمة الديون المترتّبة على هذه القروض، لذلك لا بد من استغلال الأموال المقترضة لتمويل نفقات المؤسسات الإنتاجيّة التّابعة للدّولة، عندئذ تسهم القروض في التّنمية فتقود إلى ارتفاع معدل النّمو وهو الكفيل بخدمة الدّيون، وبهذه الوسيلة تنخفض اعتمادات الميزانية المخصصة للمصاريف الرأسمالية المتأتية من إيرادات النفط فيهبط العجز المالي.

لا تقتصر الأزمة الماليّة على الإيرادات بل تشمل أيضا النفقات، الأمر الذي يزيد من تعقيد الأزمة من الزاويتين المالية والسّياسية.

ارتفاع الإنفاق العام

انتقلت المصروفات من 21555 مليون دينار في عام 2020/2021 إلى 23048 مليون دينار في العام الجاري 2021/2022 ، أي بزيادة قدرها 6.9%.

من حيث التّقسيم الإداري للإنفاق العام تعطي الدولة اهتماماً كبيراً لوزارات الصّحة والتّربية والدّفاع والدّاخلية والكهرباء والماء، وبلغت اعتمادات هذه الوزارات 9749 مليون دينار في العام المنصرم أي حوالي نصف الإنفاق الكلّي للبلد.

من زاوية أخرى، تحتّل الاعتمادات المخصّصة للمرتّبات المرتبة الأولى، حيث بلغت 12593 مليون دينار، أي أكثر من نصف مجموع الإنفاق العام، تليها من حيث الأهمية مصروفات الدّعم البالغة 3916 مليون دينار.

الظاهر أن هنالك إجماع على عدم تخفيض هذه الاعتمادات، لذلك تنصبّ الجهود على محاولة إيجاد إيرادات إضافيّة لتمويلها بدلاً من تقليصها، لكن الأزمة المالية تدل بوضوح على عدم إمكانية الاستمرار بهذه السّياسة. وأشار صندوق النّقد الدّولي في عدة مناسبات (بيانات مشاورات المادة الرابعة) إلى ضرورة العمل على تحسين مستوى الأجور في القطاع الخاص لتخفيف الضّغط على التّوظيف في القطاع الحكومي، وبالتّالي تهبط الاعتمادات المخصّصة للموظفين. كما أكد على ضرورة تقليص الدّعم الحكومي الموجّه للسّلع والخدمات، علماً بأن هذه التّوجهات تتكرّر في جميع بيانات الصّندوق المتعلقة بدول مجلس التعاون.

أما مجلس النواب فيرى أن المشكلة الأساسية ليست في تضخم نفقات المرتّبات والدّعم بل في تفشّي الفساد المالي الذي يقود إلى ارتفاع الإنفاق العام، وهو ما وتّر العلاقة بين السّلطتين التّشريعية والتّنفيذية.

الحلول السّياسية غير كافية

مجلس الأمّة الحالي لا يميل إلى الإصلاح الاقتصادي والمالي بالمفهوم الذي تدافع عنه الحكومة، ويعارض البرلمانيون فرض أيّة ضريبة جديدة وتقليص الإنفاق المخصّص للمرتبات والدّعم والسّحب من صندوق الأجيال القادمة والاقتراض. فبتقديرهم لا يمكن التّصدي للأزمة الماليّة إلا بمحاربة الفساد المالي والتّوقف عن هدر المال العام.

هكذا خلقت ماليّة الدّولة مأزقاً بين السّلطتين. من هنا، يمكن لرئيس الدّولة استخدم المادة 102 من الدّستور لمواجهة هذه الحالة، وله بموجبها الاختيار بين أمرين:

الأمر الأول حل مجلس الوزراء، والأمر الثاني حل مجلس الأمة.

وتشير المعطيات إلى أن الخيار الثاني أقرب إلى الواقع، عندئذ يمكن خلال فترة الحلّ إصدار مراسيم بقوانين لتنظيم الإصلاح المالي كإصدار قانون الدّين العام وقانون السّحب من صندوق الأجيال القادمة. علماً بأن تجارب الحلّ السّابقة أثارت مناقشات قانونيّة حول عرض هذه المراسيم أمام مجلس النواب الجديد للموافقة عليها، بمعنى آخر حلّ البرلمان ليس الحلّ الأمثل لمعالجة الأزمة الماليّة.

الأزمة الكويتية ناجمة عن مشاكل بنيويّة ترتبط بالأحاديّة الماليّة، ولا يمكن التّصدي لها بفاعلية إلا بتنمية الإيرادات غير النّفطية خاصّة الضّريبية. ويتعيّن تقليص الإنفاق الاعتيادي وبالخصوص المرتّبات والدّعم، كما يجب إعادة النّظر في تنظيم صندوق الأجيال القادمة بحيث يسهم في تنمية موارد الدولة الحالية.

بغير ذلك سيستنزف الاحتياطي الرّسمي للدّولة وسترتفع مديونيتها الدّاخلية والخارجية.

منشورات أخرى للكاتب