تونس: قيس سعيّد "قيْصرُ" تصحيح المسار أم انقلابيٌّ مُغامر؟
31-07-2021

 

 

فعلها قيس سعيّد وأطلق أخيرًا "صواريخَه الدستوريّةَ الرابضةَ على منصّاتها" بعد أن هدّد بذلك غيرَ مرّةٍ خلال السنتيْن الماضيتيْن. وكان تهديدُه موجَّهًا بوضوح إلى حركة النهضة وحلفائها في الأغلبيّة الحاكمة، التي دخل معها في صراعٍ منذ أن عمدتْ إلى تحويل وجهة رئيس الحكومة، هشام المشّيشي، الذي اختاره سعيّد معوِّلًا على وفائه فانقلب عليه وصار بيدقًا في يد "النهضة" ومَن معها. ومن الواضح أنّ سعيّد كان ينتظر اللحظةَ المناسبة، التي سنحتْ له فعلًا يومَ 25 جويلية المنقضي، ذكرى الاحتفال بعيد الجمهوريّة في تونس. يومَها، نزل آلافٌ من التونسيّين إلى الشارع، وتحدّوا الحرارةَ ومخاطرَ الإصابة بالوباء (المكتسحِ أصلًا) وحواجزَ البوليس وغازَه المُدمع، ليطالبوا برحيل المنظومة وحلِّ البرلمان.

ولئن كان تحرّكُ العاصمة أمام البرلمان متوسّطَ العدد، بسبب غموض خلفيّة الداعين إليه، فضلًا عن إغلاق المنافذ، فقد شهدتْ عدّةُ مدنٍ أخرى سخطًا عارمًا على حركة النهضة وصل إلى اقتحام مقرّاتها وحرقِ محتوياتها؛ ذلك أنّ أغلب التونسيّين لم يَغفروا لهذه الحركة التفافَها على ثورة الطبقات الشعبيّة قبل عشر سنوات وتجييرَها "الانتقالَ الديمقراطيّ" من أجل التمكّن من السلطة واغتنامِ الدولة.

مساءَ اليوم نفسه، وبينما كانت بعضُ الأحياء الشعبيّة تستعدّ للانخراط في الاحتجاجات، فاجأ قيس سعيّد التونسيّين بعقده اجتماعًا مع القيادات الأمنيّة والعسكريّة وإعلانِه تطبيقَ الفصل 80 من الدستور، الذي ينصّ على أنّ بمقدور رئيس الجمهورية "في حالة خطرٍ داهمٍ مهدِّدٍ لكيان الوطن وأمنِ البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السيرُ العاديُّ لدواليب الدولة، أن يتّخذَ التدابيرَ التي تحتِّمها تلك الحالةُ الاستثنائيّة." وقد تعلّل سعيّد بـ"تهاوي المرافق العموميّة،" وبـ"عمليّات نهبٍ وحرق،" وبتقاريرَ أمنيّةٍ عن توزيع أموالٍ في بعض الأحياء من أجل "الاقتتال الداخليّ." واستند إلى ذلك من أجل اتّخاذ قراراتٍ قُصوى في ظلّ السخط العامّ على أداء الحكومة (خصوصًا في التصدّي لجائحة كورونا)، وتحوُّلِِ البرلمان إلى ما يشبه حلبةَ السيرك المنقطعة عن مشاغل التونسيّين ومعاناتهم اليوميّة.

هكذا قرّر سعيّد إقالةَ الحكومة، وتجميدَ عمل البرلمان، ورفعَ الحصانة عن أعضائه. كما قرّر تولّي السلطة التنفيذيّة بكاملها، وتعيينَ حكومةٍ تساعده. وقد لاقت هذه القرارات، التي يُفترض أن تسري طوال 30 يومًا، ترحيبًا واحتفاءً شعبيًّا واسعًا. إلّا أنّها تتعسّف بوضوحٍ على بعض ما ورد في الفصل 80 الذي استندتْ إليه، وتحديدًا: "يُعتبر مجلسُ نوّاب الشعب في حالة انعقادٍ دائمٍ طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حلُّ مجلس نوّاب الشعب. كما لا يجوز تقديمُ لائحة لومٍ ضدّ الحكومة." غير أنّ سعيّد قال إنّ تجميدَ عمل البرلمان لا يعني حلَّه، وذلك في مناورةٍ تأويليّةٍ عوّل فيها على خلفيّته كأستاذِ قانونٍ دستوريّ، وعَوّل بشكل خاصّ على استعداد أغلب التونسيّين الساخطين المُنهَكين لقبول أيّ مُنقذٍ يخلِّصهم من كابوس "الانتقال الديمقراطيّ" الذي لم يروْا منه سوى سياسات التفقير والصراع المحموم على السلطة.

وصف الرئيس ما قام به بأنّه "تصحيحٌ للمسار" و"تحمّلٌ للمسؤوليّة التاريخيّة لإنقاذ البلاد." إلاّ أنّ ذلك لم يمنعْ حركةَ النهضة وعددًا من الأحزاب، من اليمين واليسار، أبرزُها حزبُ العمّال، وهو أهمُّ أحزاب اليسار، من وصفِ ما قام به بـ"الانقلاب." لكنْ وقفتْ إلى جانب سعيّد أحزابٌ أخرى (أبرزُها حركةُ الشعب، والتيّارُ الديمقراطيُّ الليبراليّ). وهناك أحزابٌ يساريّةٌ صغيرة اتّخذتْ موقفَ "الدعم النقديّ."

أمّا بالنسبة إلى أهمّ المنظّمات المهنيّة، فقد أصدر اتحادُ الصناعة والتجارة بيانًا حَذِرًا، رحّب فيه ضمنيًّا بما جرى، مشدِّدًا على أولويّة الاستقرار. فيما اتّخذ اتحادُ الشغل موقفًا مشابهًا في البداية، قبل أن يردفَه بالإعلان عن اقتراحه "خارطةَ طريق" على قيس سعيّد، في محاولةٍ على ما يبدو لتقييد يديْه. وفضّلتْ جمعيّةُ البنوك والمصارف، وهي أهمُّ فاعلٍ برجوازيّ في البلاد، التزامَ الصمت.

وأمّا بالنسبة إلى ردود الأفعال الخارجيّة، فقد جاءت - كما كان متوقَّعًا - إدانةً أو انتقادًا من قِبل حُلفاء "النهضة" (تركيا وقطر)، وترحيبًا من قِبل خصوم الإخوان المسلمين (السعوديّة والإمارات...). وفي المقابل، اعتمدتْ أغلبُ الدول الغربيّة لغةً حذرة: فدعت إلى الحوار، ونبذِ العنف، والعودةِ سريعًا إلى "المؤسّسات الديمقراطيّة." وكانت لافتةً نبرةُ الابتزاز الأمريكيّ المعهودة: فإلى جانب دعوة سعيّد إلى احترام الديمقراطيّة والحوار مع "الجميع،" فقد تعهّد الأميركيّون بمواصلة درسِ ما جرى، قانونيًّا، لتحديد إنْ كان انقلابًا أمْ لا.

إلّا أنّ الأهمّ هو محاولةُ فهم ما جرى، وما قد يجري.

 

ما الذي جرى في تونس؟

يمثّل أستاذُ القانون الدستوريّ في الجامعة، قيس سعيّد، الذي فاجأ الجميعَ بوصوله إلى سدّة الرئاسة في أكتوبر 2019، شريحةً من البرجوازيّة الصغيرة ما زالت تحنّ إلى مكاسب "دولة الاستقلال" وتأْمل في إصلاح "المصعد الاجتماعيّ" المعطوب. سعيّد محافظٌ ثقافيًّا، غير أنّه مناهضٌ للإسلام السياسيّ، ويدافع باعتدالٍ عن "دولة الرعاية الاجتماعيّة" والقطاع العموميّ، لكنْ من دون التعرّض لـ"رجال الأعمال الشرفاء." هو، باختصار، رجلُ التوافق الطبقيّ، مع الكادحين والمفقّرين ومع البرجوازيّة في الوقت نفسه.

ومحافظتُه وتوافقيّتُه تمتدّان إلى السياسة الخارجيّة ذاتها. فقد أعلن موقفًا مدوِّيًا ضدّ التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ، لكنّه لم يتّخذْ في مواجهته أيَّ إجراءٍ عمليّ منذ وصوله إلى قصر قرطاج. وفي زيارته الأخيرة إلى مصر، قرأ الفاتحة على قبر عبد الناصر، ولكنه فعل الأمرَ عينَه على قبر السادات! تُكبِّله خلفيّتُه القانونيّة، فيساند حقوقَ الشعب الفلسطينيّ... لكنْ على أراضي 67 فقط. وهو لم يتردّدْ في وصف الاستعمار الفرنسيّ لتونس بـ"نظام الحماية." بل هو يغالي أحيانًا في نزعته البورقيبيّة، إلى درجةِ أنّه لم يتوانَ، خلال اتصاله بالمستشارة الألمانيّة، في تذكيرها (بفخرٍ) بموقفٍ مخزٍ لبورقيبة عندما كسر المقاطعةَ العربيّةَ لألمانيا الغربيّة بسبب انحيازها إلى العدوّ الصهيوني.

غير أنّ ما يميّزُه عن بقيّة السياسيّين، من خلفيّته الطبقيّة والثقافيّة ذاتها، أنّه ليس سياسيًّا متمرِّسًا أو سليلَ تجربةٍ حزبيّة (واستقلاليّتُه هذه كانت من نقاط قوّته في الانتخابات). أمّا ميزتُه الثانية فهي مشروعُه للديمقراطيّة المحلّيّة المباشرة. وقد يكون سعيّد حاليًّا بصدد السعي إلى تنفيذ مشروعه لتغيير النظام السياسيّ نحو نظامٍ يَجْمع بين المجالسيّة والنظام الرئاسيّ. وهو يعتقد جازمًا أنّ تطبيقَ هذا النظام كفيلٌ وحده بتجسيد مطالب الثورة التونسيّة.

لم يدُرِ الخلافُ بين قيادة "النهضة" وسعيّد، المتديّنِ المعتدل، حول قضايا ثقافيّةٍ أو هويّاتيّة (وهو ما كانت "النهضةُ" تجرّ إليه خصومَها في السابق)، بل بسبب تحالف الحركة الإخوانيّة المذكورة مع أكثر الشرائح البرجوازيّة فسادًا، وتآمرِها لإسقاط حكومة إلياس الفخفاخ، الليبراليِّ المعتدل، الذي اختاره الرئيسُ إثر فشل "النهضة" في تشكيل حكومة؛ ومن ثمّة تأثير هذه الحركة في اختياره الموالي، هشام المشّيشي، ودفعه إلى التمرّد على الرئيس، إلى درجة إصراره على تعيين وزراءَ مشتبهٍ في تورّطهم بقضايا فساد. كما أنّ "النهضة" وسعيّد اختلفا حول الموقف من الصراع في ليبيا، وحول صلاحيّات التعبير عن هذا الموقف. وقد استمرّ الصراعُ على السلطة طوال العاميْن المنقضيَيْن بين سعيّد والغنوشي، المسنودِ بحزبيْ "قلب تونس" ورئيسه نبيل القروي (رجل الأعمال والإعلام المُطبِّع الذي خرج منذ فترة قصيرة من السجن إثر قضية تهرّب ضريبيّ) و"ائتلاف الكرامة" بقيادة المحامي الشعبويّ سيف الدين مخلوف. ولم تنفع كلُّ محاولات اتحاد الشغل وغيره في جمع سعيّد وخصومه في "حوار وطنيّ." وكانت القطرةُ التي أفاضت الكأسَ تفاقُمَ أزمة وباء كورونا، وازديادَ معاناة التونسيّين وسخطهم، وتقاعُسَ رئيس الحكومة، المكروهِ شعبيًّا، الذي لم يتردّدْ في استغلال الظرف لتصفية حساباته مع الرئيس.

 

احتمالات الصراع

بعد أن كان الرئيس خلال الفترة الماضية محشورًا في الزاوية ومُتَّهمًا من قِبل حركة النهضة بالمسؤوليّة عن تدهور الأوضاع بسبب تعطيله التعديلَ الوزاريَّ وبعضَ مشاريع القوانين، صار منذ 25 جويلية ممسكًا بزمام المبادرة. لكنّ الوقت يمضي بسرعة، ولا يعرف أحدٌ خطواتِه المقبلة. إلى حدّ الآن، مازال سعيّد يكرِّر للجميع، في الداخل والخارج، أنّه متمسّك بالنصّ الدستوريّ وبالحفاظ على الحقوق والحرّيّات، ولا ينوي العودةَ إلى الاستبداد. وهو على الأرجح لا يفكّر كذلك في المسّ بمحرَّمات "المجتمع الدوليّ،" وتحديدًا المديونيّة الخارجيّة واتفاقيّات التجارة الحرّة. إلّا أنّه يبدو، إلى الآن، مصمِّمًا على رفض التحاور مع حركة النهضة والقبول بعودة البرلمان الذي أمر بتجميده. وهو قد شرع في تحريك ملفّاتٍ قضائيّةٍ ضدّ هذا الحزب وحلفائه بتهمة الحصول على تمويلاتٍ أجنبيّة خلال الحملة الانتخابيّة الأخيرة -- وهي تهمةٌ قد تفضي إذا ثبتتْ إلى إلغاء نتائج الانتخابات التشريعيّة السابقة.

كما أنّ سعيّد بدأ في تصعيد اللهجة ضدّ بعض المحتكرين من التجّار، وضدّ رجال الأعمال الذين نهبوا أموالًا عموميّة، وطالبهم بإعادتها لتمويل مشاريع تنمويّة في الجهات المحرومة مقابل العفو عنهم. ومع كلّ إجراءٍ أو موقفٍ من هذا النوع تزداد شعبيّتُه لدى عموم الناس الذين صاروا ينتظرون كلَّ يومٍ ما ستطالعهم به صفحةُ الرئاسة من تصريحاتٍ أو قراراتِ عزلٍ أو تعيين. كما أنّهم باتوا ينتشون لسماع بلاغات النيابة العموميّة عن تحريك هذا الملفّ القضائيّ أو ذاك. وفي حين تطالب بعضُ الأحزاب والمنظّمات الرئيسَ سعيّد بوضع خارطة طريق لهذه الفترة الاستثنائيّة، فإنّه لا يبدو مهتمًّا كثيرًا بذلك، بل يسعى إلى تعزيز شعبيّته وتسديدِ أكثر ما يمكن من ضرباتٍ "قانونيّةٍ" إلى خصومه.

في هذا الصراع المجهول المآلات، لسعيّد نقاطُ قوّةٍ وضعف. أهمُّ نقاط قوّته ما كسبه من شعبيّةٍ خارقةٍ خلال الأيّام الأخيرة (بعد أن أضاع جزءًا وافرًا منها خلال الشهور الماضية بسبب اكتفائه بالتصريحات والتهديدات التي صارت مصدرَ تندّرِ التونسيّين). ومن نقاط قوّته أيضًا ما يبدو من وفاءٍ تامٍّ من طرف قيادة المؤسّسة العسكريّة. إلاّ أنّ اعتمادَه شبهَ الكلّيّ على الأجهزة العسكريّة والأمنيّة قد يتحوّل إلى نقطة ضعفٍ في ظلّ عدم استناده إلى حزبٍ أو تنظيمٍ سياسيّ يَضمن اطّلاعَه على تفاصيل الواقع ويمنحه القدرةَ على التعبئة والمناورة الميدانيّة بسلاسة. ولا يبدو كذلك أنّ الرجل ومَن حوله مهتمّون بعَقد تحالفاتٍ مع أحزابٍ أو مجموعاتٍ مستعدّة للتقاطع معهم.

في دفاتر السجن، تحدّث غرامشي عن ظاهرة "القيصريّة" أو "البونابرتيّة" التي تشهدها الأنظمةُ البرجوازيّةُ المتأزّمة. فعندما تعجز البرجوازيّةُ والطبقاتُ الشعبيّةُ عن الانتصار، يَنتج من ذلك "توازنٌ كارثيٌّ للقوى" يهدِّد بتدمير الطرفيْن معًا. في تلك اللحظة قد تنفكّ العقدةُ مؤقّتًا على يد شخصٍ مُنقذ. إلّا أنّ هذه القيصريّة قد تكون "تقدّميّةً" فتنقل المجتمعَ نحو درجةٍ أعلى من الحضارة، أو قد تكون رجعيّةً فتطيح بالثورة وتُرجع الطبقاتِ القديمةَ.

قد ينجح سعيّد في المضيّ قُدُمًا نحو تغيير النظام السياسيّ وإرساء الديمقراطيّة القاعديّة. وقد يتعثّر في عراقيل "النهضة" وما قد يُمارَس عليه من ابتزازٍ وضغطٍ خارجيّيْن. وقد تستهويه السلطةُ فيَنزع نحو الحكم الفرديّ. وعندئذ سيعلم التونسيّون من أيّ طينةٍ قُدَّ قيصرُهم.

تونس

غسان بن خليفة

صحافي وناشط يساريّ من تونس.

كلمات مفتاحية